حضرتُ مسرحية هذا الأسبوع، نظّمها نادي المسرح بجامعة الملك عبدالعزيز، وأخرجها أحمد الصمان، عنوانها: (كلنا نصوص).. والعنوان لوحده حفلةٌ لا تُفوّت.. أليس كذلك؟ كانت مسرحيةً رمزية صامتة؛ (أحد الحضور قال بخبث وهو يخرج: مسرحية جميلة، لكنهم نسوا الكلام!! نسوا أهم شيء.. وضحك).
حضرتُ لأن علاقتي بهذا المسرح علاقة عُمر، لم أشترك فيه، لكني أحبه، وأتابعه منذ أيام الجامعة.. لم أكن عضوًا في النادي، لأني لم أكن طالبًا في الجامعة، لو كنتُ.. لما ترددت. لكني كنت أحضر، وأكتب تقارير صحفية عما أشاهد، أنشرها في الصحف، وفي المنتديات بعد ذلك. أبو عمر.. عبدالله باحطّاب، عرّاب المسرح الجامعي وعمدته، ذكّرني بأحد التقارير عن مسرحية قديمة، نشرتْه (المدينة) قبل ثمانية عشر عامًا أو يزيد: «لا أنسى ذلك التقرير.. كان تقريرًا محترفًا»، قال باحطاب.. وأجبت: «أنا أؤمن بالمسرح وأحبه.. وقد كان العمل رائعًا.. أتذكر يومها، كان أحد أعمال فهد رده الحارثي، وكان باحطاب واقفًا يرحب بالحضور وينظمهم. هذا الأسبوع كان باحطاب أيضًا واقفًا في مكانه، يرحّب وينظّم، لم يختلف كثيرًا.. باستثناء الأبيض الذي فاض من قلبه.. واشتعل في رأسه.
كانت المسرحية عملًا جريئًا وجميلًا؛ وهل يستطيع الفن الحقيقي إلا أن يكون جريئًا وجميلًا؟! لعلّ الموسيقى كان أول أبطال العمل، لكن الإضاءة زاحمتها البطولة، أداء الممثلين كان مقنعًا جدًا، وممتعًا.. تَلبُّسُهم للحالة المسرحية كان يدعو للبهجة، التلبُّس هو ما يدعوه ستانيسفلاسكي «معاناة الدور»، أي «أن يبلغ الفنان الصدق، ويقترب من الدور، ويأخذ بالإحساس». فارس دمدمْ كان أحدَهم؛ طالب ماجستير، يدرس في شعبة المسرح الكلاسيكي التي أدرّسُها.. حرصتُ على الحضور من أجله.. لم أكن أعرفه، لم أقابله قبل المسرحية، قررت أن أمارس لعبة التخمين: كلما ركّزتِ الإضاءةُ على أحد الممثلين، ضحكتُ.. وقلت هذا فارس. وحين يبرز نجمٌ آخر، أتعجّب وأقول: هذا ابني.. هذا أكبر، وهكذا. أحدهم كان يسقط على الأرض ويبكي بهستيرية، في مشهدٍ كوميدي بامتياز.. تمنيتُ أن يكون هو فارس!!
ظلامُ المسرح، لم يكن يقطعه إلا نورُ الجوالات، سناب وفيس بوك وتويتر وحركات.. أمرٌ مزعج.. ومستفز، لو كان الأمر لي لمنعت الجوالات في المسارح ودور السينما، وقاعات أفراح الرجال (مساواةً بالشقيقات)!! لن يكون الأمر لي أبدًا.. أعلم ذلك . الجوالات لم تكن شرًا محضًا، فعن طريقها اكتشفت أن الجالسَ قريبًا مني هو صديقي الجميل الناقد والمسرحي الدكتور نعمان كدوة.. نعمان حاملُ الشعلة، وبطل أولمبياد النور المسرحي منذ عقود. كان -ويظل- أحد أهم الأسماء التي أنجبها مسرح جامعة الملك عبدالعزيز، اليوم يقف أستاذ فلسفة، وناقدًا، وشاعرًا، ومؤلفًا مسرحيًا، ومديرًا لأول برنامج ماجستير في الأدب المسرحي تحظى به المملكة.. يا له من دأب.. ويا لها من رحلة، في الغرب يصنعون لنعمان وأمثاله تماثيل.. تحمل مشاعل من نور.. وتدور!!
هكذا يظل نادي المسرح؛ أجيالٌ تعقب أجيال، ونور ينبثق من قلبٍ لآخر.. أتابعه منذ عقدين وأكثر، وأشعر بفخر أني كنت أكتب عنه. اليوم، لا أزال أشعر بالفخر ذاته.. لأني لا أزال أتابعه، وأكتب عنه، وأنتمي لصرحٍ يحتفي بالجمال إذ يحتفي به، يحتفي به وهو يقدّم مسرحًا ناضجًا مثل (كلنا نصوص).
انتهتِ المسرحية، وانتهى التصفيق.. خرجتُ أرتدي الغبطة ذاتها (تلك التي ارتديتها منذ عقدين أو يزيد)، في البهو.. سمعته يناديني.. كان يلاحقني لاهثًا: «دكتور دكتور.. أنا فارس.. جيتك جري والله، وتركت الزملاء!!». كان فارس يشكرني مبتهجًا. قلت له: «بل شكرًا لك أنت.. أنت من يستحق الشكر». تركتُ ابتسامته تشاغبُ ملامحه.. وغادرتُ، وفي البالِ إحدى الشخصيات.. كانت تسقط على الأرض وتبكي بهستيرية، لنبتسم.. ونصفق..!!
من باحطّاب ونعمان إلى فريق الصمان: في مسرح الجامعة «كلنا نصوص»!!
تاريخ النشر: 12 نوفمبر 2020 00:06 KSA
A A