قضى الدكتور عاصم حمدان -الذي غادرنا قبل أشهر رحمه الله- سنواتِ الصبا والشباب الأولى بين مدينتيْ المدينة المنورة ومكة المكرمة، وهي المرحلة التي شكلت ملامح شخصيته الفكرية والثقافية.. وبعد سنين، حين نضج عقله وقلمه، بدأ بكتابة حلقات متنوعة تضم مشاهداته الخاصة عن الأماكن المقدسة، وعن المجتمعات المحيطة بها.
تتنوع مضامين هذه المشاهدات بين وصف الأماكن، وتسليط الضوء على عادات وتقاليد المجتمعيْن المدني والمكي، وعلى أهم الشخصيات العلمية والفكرية، والاجتماعية كذلك.. ولعل اهتمام عاصم حمدان بهذه الفئة الأخيرة (أعني شخصيات مجتمع الحارة)، يمثل إحدى العلامات المهمة في مشروع حمدان الأدبي، فلطالما ظلت هذه الشخصيات على هامش المنجز الفكري، إذ لم يكن الكتابة عنها، وتسليط الضوء على دورها، أمرًا شائعًا بين النخب، مقارنةً بالشخصيات العلمية المعروفة في حلقات العلم والتأليف والتدريس.
الحديث هنا يتناول سبعة كتب، هي: (حارة الأغوات، 1413هـ)، و(حارة المناخة، 1414هـ)، و(ذكريات من الحصوة، 1419هـ)، و(هُتاف من باب السلام، 1421هـ)، و(رحلة الشوق في دروب العنبرية، 1425هـ)، و(صور من الماضي البعيد في طيبة الطيبة، 1434هـ)، بالإضافة إلى كتاب (أشجان الشامية، 1416هـ).
الكتاب الأخير، يتحدث عن الفترة التي قضاها المؤلف في مكة المكرمة، بينما تتحدث الكتب الستة السابقة عن تفاصيل مشاهداته في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم.. ولعل أول الأسئلة التي يصطدم بها قارئ هذه الكتب هو سؤال النوع، إذ يجد نفسه بين صفحات مختلفة الطرح شكلاً ومضموناً، تبدأ بالجغرافيا، ولا تنتهي بالتاريخ، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، والنقد الأدبي... وغير ذلك.
هذا ما دفع غازي عبيد مدني إلى التساؤل عن ماهية ما يقرأ: «تاريخ أم ذكريات»؟ يقول مدني في تقديمه لـ(حارة الأغوات): «الصورة هي الحقيقة، وهي لا تعرف الكذب لأنها تعكس المصوَّر... هذا العمل الذي يقدمه الدكتور عاصم حمدان يقدم صورة تنقل مشاعر القارئ إلى روعة الماضي».. وتسجيل الماضي، يمثل وظيفة من الوظائف المهمة التي يؤديها هذا النوع من الأعمال، خصوصاً وهي تفترق عن كتب التاريخ، بأنها تنقل صوراً من حيوات المجتمعات التي لا تكترث لها كتب التاريخ في العادة، فيكون النسيان مصيرها. ونزار عبيد مدني يؤكد ذلك في مقدمته لـ(حارة المناخة)، حين يقول: «لقد شاهدت -ولا أقول قرأت- في الكتاب صوراً إنسانية ناطقة لقوم عرفتهم المدينة فأحبتهم بقدر ما أحبوها وظلت ذكراهم عابقة متوهجة.. ورأيت فيه تجسيداً حياً لأماكن ومواضع اندثر معظمها ولم يبق منه إلا ذكريات وحنين وحسرة على ما فات، أملاً وتطلعاً إلى ما هو آت». الفكرة ذاتها يؤكدها محمد عمر العامودي، وهو يقدم (أشجان الشامية) الذي يضم «أشياء كثيرة من هذا الذي نريد أن نحفظه في السجلات قبل أن ينسى.. فيه أشياء كثيرة من هذا الذي نريد أن تقرأه الأجيال الحاضرة والقادمة».
وعاصم حمدان في محاولته رصد الماضي وتسجيله، يسعى إلى القبض عليه وتأثيثه بطريقة دعت الناقد حسين بافقيه يذهب إلى أن ذاكرة حمدان «تعيش الماضي وتتيه في هذا الحاضر»، لذلك يحاول بعث الماضي، وبناءه من جديد، لأنه يحيا في داخله، وإن اعتقد البعض أنه ماضٍ آفل، ويخلص بافقيه إلى أن ولع عاصم حمدان بالسيرة الذاتية، وبالماضي الذي قضاه في ربوع مكة والمدينة، جعله يختلط أسلوباً في الكتابة يشبه أسلوب «السيرة»، يخلط في كتبه بين ذكرياته الذاتية، وحكايات الأمكنة وقصص رجالها ونسائها، «فأعماله المتوالية مسكونة بـ»الأمكنة المنهارة»، فهي سيرة تلك الأمكنة، وهي سيرته هو كذلك، ولعل مرد ذلك تعلقه بالمكان عنواناً، وبالمكان فضاءً، فثبات الأمكنة تقييد لحيوات من فيها، وزوالها تعدٍّ على الذاكرة التي تلتمّ على نفسها، وتعيد ترميم تلك الأمكنة، لغةً، وقد هوتْ مادةً ووجوداً، ويصبح الحنين إلى ذلك الماضي، الذي لا يعود، برداً وسلاماً على الأنفس الولهى».