من أكثر ما يميز المجتمع السعودي عن غيره من المجتمعات ازدياد نسبة الشباب وسط سكانه، حيث تشير الإحصاءات المعتمدة التي أوضحها التعداد السكاني الأخير أن ما يزيد على ثلثي عدد السعوديين هم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين، وهو ما يعني بوضوح أن هذه البلاد موعودة بمستقبل مشرق، عطفا على ما تمتلكه هذه الشريحة الغالية من إمكانات وما تمثله من رصيد باعتبارها نصف الحاضر وكل المستقبل، وإذا ما تم استغلال هذه القدرات بالشكل المطلوب، فإن ذلك سيؤدي إلى تحقيق أهداف كبيرة ومنافع متعددة.
من أكبر المجالات التي ينبغي الاستفادة فيها من طاقات هؤلاء الشباب مجال التطوع، الذي أصبح من أهم أدوات المجتمع المدني التي يمكن عبرها تحقيق العديد من الأهداف التي تحتاجها المجتمعات، والتي يصعب على الأجهزة الحكومية الرسمية القيام بها لأسباب متعددة، في مقدمتها الروتين والبيروقراطية والإجراءات الإدارية المعقدة، لذلك بإمكان تلك السواعد الشابة القيام بهذا الدور وسط مجتمعاتهم لمعرفتهم التامة بخصائصها ومميزاتها.
ولا تقتصر الفوائد الناتجة عن تفعيل العمل الطوعي على ما يحققه أولئك الشباب من مكاسب لغيرهم، بل إن ذلك العمل يسهم في زيادة الإحساس في أوساطهم بالانتماء إلى بلادهم، فهو يرفع من الروح الوطنية لديهم، ويزيد قدراتهم ومهاراتهم ويقودهم إلى الإحساس بالمسؤولية واعتياد العمل وبالتالي يزداد لديهم الوعي الفردي والمجتمعي.
هناك جانب في غاية الأهمية ينبغي الانتباه له وهي أننا –بحمد الله– مجتمع ترتفع فيه نسبة الخيرين بين أبنائه، وهناك الكثير من الميسورين ورجال الأعمال الذين يريدون خدمة بلادهم بكل ما يستطيعون، وأمثال هؤلاء يمكن أن يسارعوا إلى تبني الجمعيات الطوعية والإسهام في تدريب أعضائها على أساليب العمل التطوعي الحديث، وتوفير الحواضن الوطنية التي يمكن أن تستوعبهم وتستفيد من الطاقة الهائلة الكامنة في دواخلهم. لذلك فإن المطلوب فقط هو إيجاد مظلة تنظيمية تستوعب هؤلاء وتوفر لهم الأجواء المناسبة للعمل، بعد اكتمال التشريعات واللوائح الرسمية التي تنظم عمل هذه الجمعيات. ويمكن بعد ذلك أن تتنوع مجالات الجمعيات حسب حاجة المجتمع.
خلال جائحة كورونا التي يعيشها العالم حاليا بادرت وزارة الصحة إلى فتح منصة للمتطوعين للاستعانة بهم في أوقات الطوارئ لبث الوعي في أوساط المواطنين والقيام ببعض الأدوار الأخرى. ولم تكد تمر أيام معدودة على فتح باب التطوع حتى سارع مئات الآلاف من الشباب إلى تسجيل أسمائهم والإعراب عن استعدادهم لأداء كافة ما يطلب منهم، وهو ما يشير بوضوح تام إلى تنامي الروح الوطنية في دواخلهم، وتعاظم الوعي لديهم.
مما يشجع على تنفيذ هذه الفكرة هو منظر الكثير من شبابنا خلال موسم الحج وهم يرشدون التائهين ويساعدون ضيوف الرحمن على أداء مناسكهم. يوزعون الماء والغذاء ويقضون الساعات الطوال وسط هجير الشمس. وكذلك لا ننسى التجارب التي مرت بها بلادنا في بعض الأوقات وشهدت تدافعا شبابيا كبيرا لتقديم العون والمساعدة للمحتاجين، ففي كارثة السيول والأمطار التي ضربت مدينة جدة عامي 2009 و2011، بادر آلاف الشباب إلى تنظيم أنفسهم في جماعات سارعت إلى دخول الأحياء المتضررة، فقدموا المساعدة والعون للسكان، وشيدوا التروس والحواجز التي أوقفت تدفق المياه وأزالوا الأنقاض والوحل. ليس هذا فحسب بل قاموا بتوفير الغذاء والدواء للمحتاجين.
كما نشهد نماذج مماثلة لتلك التجارب المشرقة خلال فعاليات ثقافية أخرى مثل مهرجانات الكتب ومهرجان الجنادرية. كذلك كثيرا ما نشاهد خلال فترات الإجازة الصيفية مجموعات من الشباب وهي تقوم بتنظيف الحدائق، لاسيما في المدن التي يرتادها السياح والزوار.
هؤلاء قاموا بتلك الأدوار الرائدة من تلقاء أنفسهم، ولم تقدم لهم الدعوة من أي جهة رسمية أو شعبية، جمعهم حب الوطن والرغبة في مساعدة إخوتهم، فإذا ما تم تنظيمهم وتدريبهم وتوجيه جهودهم بصورة علمية صحيحة فلا شك أن النتيجة سوف تكون أكثر اشراقا وابهارا، وسيجنى المجتمع ثمارها نهضة وازدهارا.
أخيرا ينبغي الإشارة إلى أن هؤلاء الشباب يتمتعون بطاقة هائلة في دواخلهم، ولهم رغبة واضحة في خدمة بلادهم ومجتمعاتهم، فإذا ما سارعنا إلى استغلالها نكون قد حققنا الكثير من الأهداف، أما إذا أهملناهم ولم نقم باستغلالهم بالشكل المطلوب فإنهم سيجدون أنفسهم فريسة سهلة للفراغ الذي يقود في كثير من الأحيان إلى المهالك وهو أوسع طرق الإدمان والوقوع في فخ تجار المخدرات. بل إن تيارات التطرف والعنف كثيرا ما تلجأ إلى تجنيد هؤلاء، بعد إغرائهم بمعسول الكلام والخطب الفارغة.