سأبدأ باعتراف صغير.. وفادح..
كانت رواية (السبيليات)، أولَ عمل أقرأه للعملاق الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل.. وهي إحدى رواياته الأخيرة (ظهرت عام 2015، ولم ينشر بعدها سوى روايتين).. أشعر بالخجل، لأن علاقتي بالسرد وطيدة جداً، ولأني عرفت إسماعيل مبكراً، لكني لم أهتمّ. لا أعرف لماذا؟ تكفيراً لهذا الذنب قررت أن أقرأ كل أعمال إسماعيل السردية، لعله -بقلبه الذي يملأ قبره دفئاً- يغفرُ لي...!!
لا أعلم أين كنت بالضبط، حين فتحتُ رواية (السبيليات)... التهمتُ الصفحة الأولى مشدوهاً؛ ثم التهمتني الصفحات، بعد ذلك.. تبدأ الصفحة الأولى بساردٍ داخلي يحكي عن نفسه، ورده اتصال في العام 1988 من صحفي كويتي يسأله إن كان مسقطَ رأسه تلك القرية التي تقع جنوب البصرة العراقية وتدعى «السبيليات».. إسماعيل وُلد في البصرة بالمناسبة، أمه عراقية وأبوه كويتي.. أخذه الصحفي مع بعثة صحفية في جولة نظّمتها السلطات العراقية حينها للاطلاع على الدمار الذي خلّفته الحرب مع إيران.
في الطائرة كان منظرُ الشريط الساحلي الغربي لشط العرب صادماً، مساحات شاسعة من الصفرة والذبول، غابات نخيل شاسعة اغتالتها الحرب، وفجأة -وسط كل ذلك الذبول- ظهرتْ في الأسفل جنة خضراء صغيرة.. «لماذا هذه الأرض وحدها؟؟» سألَ السارد.. «هذه السبيليات»، كانت الإجابة.
تدور حكاية الرواية حول أمّ قاسم، تلك التي هاجرت مع عائلتها وجميع أهل السبيليات بأمر السلطات مع بداية الحرب.. تركوا بيوتهم على عجل، قيل لهم: ثلاثة شهور وتعودون.. لم يعودوا إلا بعد ثمانية أعوام.. وحدَها أم قاسم عادت قبل ذلك بكثير.
في طريقها مع عائلتها للنجف، مات زوجها، أبو قاسم.. دفنوه بين نخلتيْن، وواصلوا.. قرب النجف، نصبوا عششَهم، على أمل العودة.. بعد عامين، قررتْ أم قاسم أن ذلك يكفي.. أخذتْ حمارَها (قدمْ خير) واتجهتْ صوب البصرة.. في طريقها، مرّت على زوجها، نبشت قبره، ثم أكملا الرحلة.. كلما نغزها قلبُها غربةً ووحشة، ضمّت عظامَ زوجها.. وتنهّدت.. (يا الله؛ هل أسعفتنا الطبيعة بألوان ترسم صورةَ امرأةٍ تسافرُ على حمارها، وحيدةً إلا من كفنٍ يضم عظام رفيق الدرب!! أشك في ذلك).
كان أبو قاسم يزورها في المنام بعناد، حتى قررتْ أن تأخذه لتدفنَه في باحة منزله بالسبيليات، هو مثلُها، لم يعرف بلداً غيرها، فكيف يُدفن بعيداً عنها؟! سؤال بسيط، لا يحتاج لعقل فلسفي للإجابة.. أم قاسم -على الأقل- لم تتعبها الإجابة: أخذتْ رفاتَ زوجها، واتجهت نحو السبيليات.. في طريقها تجنّبتِ الدوريات العسكرية، ونقاطَ التفتيش.. وفي طريقها -أيضاً- هالها الموتُ الذي خيّم على المزارع، والجفافُ الذي حاق بالأنهار والجداول التي تعرفها كما تعرف نفسها.. لذلك حين وصلت لبيتها بعد أسابيع، قررتْ أن السبيليات، قريتَها ومركزَ كونها، لا تستحق الموت، فسعتْ لإنقاذها.. وكانت المعجزة.
حكاية أعجوبة.. لا يضاهيها عجباً إلا براعة سردها، اعتمد كاتبها على تداخل الأصوات بأسلوب مذهل.. كان (قدمْ خير)؛ حمارُ أم قاسم، شخصيةً لا تقل أهميةً عن باقي الشخصيات، أعتقد أن حوارات أم قاسم مع حمارها، تستحق أن تفرد بدراسة خاصة.. أمُّ قاسم امرأةٌ في منتصف الخمسين، ليست متعلّمة، ولا تعرف شيئاً عن السياسة، لكنها لم تستطع أن تفهم كيف لحربٍ ما، أن تعني موت قريتها.. لم تفهم.. ولن تفهم، من هنا قررت أن تفعل شيئاً.
التفاصيل عالم سحري من السرد؛ تطور الأحداث لا يعطيك فرصةً لالتقاط دهشتك، والحوارات حُقنٌ صغيرة للتخدير؛ تقول لك: إن ما يحدث واقع، وإن رأيتَ الخيالَ -مثلك- يقفُ فاغراً فاه!! تُـتطوِّرُ أم قاسم علاقةً غريبة مع عسكر القرية، علاقةَ مراوغة واحتيال ومودة.. خليط من هذا وذاك..!! تحيي الأشجار، وتنظّف البيوت (بيوت السبيليات)، وتفتح الأنهار المسدودة، وترمّمُ الجدران التي دمّرتها القاذفات الإيرانية... (هل تلومون الخيال حين يقف مشدوهاً؟!).
كانَت أم قاسم لا تفهم لغة الحرب، ولا تعقيداتها.. لا تعرف لم هي ضرورية، ولا تريد أن تعرف.. مفهومها بسيط عن الحرب، بسيط ومعقد؛ الحرب موت وأم قاسم لا تدرك إلا لغةَ الحياة. مع مرور الأيام بدأ العسكر يؤمنون بها.. وببركتها، ويساعدونها في سعيها.. جندي جاسم أحدهم.. يتيمٌ من الفاو، تلك التي دمرتها الحرب بوحشية، تعلّق بأم قاسم وأصبح يناديها: أمي.. كان يفهم في الزراعة، وفي أشياء أخرى.. «أنت ولدي الرابع»، كانت تقول له.. ويبتسم.. في ليلةٍ ما، سقطتْ قذيفة في غرفته، مات زميله، وبُتِرتْ كفُّه اليسرى.. أُخذَ جاسم بعيداً.. كان هذا يعني تسريحه من الجيش، وإعفاءه من الحرب.. بعد شهور تحضرُ للسبيليات سيارة نقل.. ينزل منها جندي جاسم.. طلب أن يعود.. حين رأته أمُّ قاسم: «غصّ فمها بصوتها... خانتها ركبتاها، تداعى جسدها أرضاً، هرع إليها جاسم، حوّطها بذراعه اليمنى»، وقال: «سلامتك أمي».. قالها وابتسم.. هي.. دمعتْ عيناها.. وأنا بكيتُ!!