الجدل كبير حول المثقف منذ سقراط الذي دفع الثمن غاليًا لمواقفه الفكرية والفلسفية، مرورًا بأفلاطون وأرسطو، وانتهاء بغرامشي.. تظل شخصية المثقف حالة إشكالية، حول وظيفته الثقافية والاجتماعية.. ما نعرفه عن المثقف هو أنه شخصية مصطفاة، أي ليست عادية، على ظهرها رسالة لمجتمعها كيفما كانت ردة فعل الأنظمة التي تعيش في عمقها أو على هوامشها، بالخصوص إذا كانت هذه الأخيرة ظالمة وغير مصغية.. المفترض في هذه النخب أن تفكر بشكل عميق، وتقترح السبل الجديدة للتطور والمواطنة والحرية، حتى ولو كانت تعيش في دائرة صعبة.. الجهد الثقافي الفردي مهم، لكنه ينتهي إلى الموت بالمعنى الاجتماعي، بسبب غياب المساحة المجتمعية التي يلتصق بها ويتحول من خلالها إلى جزء من نسيجها العام.
تجد النخب اليوم نفسها أمام مأزقين متصلين.. المأزق الأول يتلخص في كونها لا تنتج معرفة مواكبة لمعضلات العصر الذي تعيشه لأن أطروحاتها كثيرًا ما تكون مرفوضة أو غير مقبولة، سواء كانت أصولية متجددة أو حداثية، أو حتى محافظة عادية.. المأزق الثاني هو أنها، حتى عندما تتجاوز صعوباتها الوجودية وتنتج هذه المعرفة، فهي لا تصل، لأن قدرة الاستيعاب الجماهيرية محدودة، وغير مهيأة لأي تغيير في الذهنيات.. لا نظن أن السبب يعود لمشكلة الأمية وحدها، ولكن لغياب الإستراتيجيات، والوسائط التنظيمية التي تنقل المنتَج المعرفي.
في الثورات العالمية الكبرى، لم تكن الأمم على مستوى عال من الثقافة والتنظيم، ولكن البؤس المُعاش، أوجد في النهاية قيادات حقيقية وليس افتراضية، استطاعت أن تغرس البدائل في الناس وتغير المجتمع كليًا، وتفتح أمامه الآفاق المغلقة.. واليوم، على الرغم من وسائل التواصل الحديثة.. الإنترنت، الفيسبوك، تويتر، الانستغرام، الواتساب، وغيرها، إلا أن مشكلات التواصل بين النخبة والمجتمع، واقتراح الحلول والمساهمة فيها، ما تزال قائمة.. كل هذه الظواهر مجتمعة وغيرها، تفسر الغياب الثقافي الفعلي وعجز النخبة عن التواجد وفرض رأيها.. هناك جانب من هذا الضعف يصيب البشرية جمعاء لأنها عرضة للتاريخ والمصالح، وبالتالي للاختلافات العميقة، فيتم تحجيم وتغييب دور النخب ومراقبتها.. ومنه ما يصيبنا عربيًا بشكل خاص بتغييب كلي للنقد.. إذ لا يمكن لمثقف فاعل أن يبدي رأيه في الحكم ويآلياته دون التعرض للرقابة وتحجيم حريته.. فقد خلقنا ثقافة الخوف وبقينا في تخلفنا إذ لا يمكن لأمة أن تتطور دون نقد وتصليح الاعوجاج.. وهذا المنع أرضية خصبة للعنف الذي مس المجتمعات العربية لدرجة أن أحرق منجزها وأفشل الثورات وإمكانات التغيير.
في غياب الفعل النقدي، نتجه اليوم نحو العقل الوثوقي المغلق واليقيني، الذي لا يمكن إلا أن تكون نتائجه وخيمة.. فهو غير منتج ثقافيًا، إذ لا يكلف نفسه جهدًا كبيرًا يربط مشروعه الثقافي بالحاضر المتحرك، إذا كان له مشروع.. ويحل المثقف الوثوقي كل شيء بالخطاب الذي حينما يصطدم بالواقع، يتهاوى..
تحتاج حالتنا العربية المستعصية إلى انتفاضة داخلية حقيقية توجه كل شيء نحو التجديد والتنور وخيارات التطور، ونقد التجارب السابقة التي لم تفض إلى الشيء الكثير.. إذا بقي العرب في استكانتهم المتكررة، فلن ينتج إلا المزيد من الانحدار.. النخبة الثقافية التي عايشت زمن النهضة، قامت بجهودها التي يمكن انتقادها طبعًا، ودفعت ثمن خياراتها، فكانت صمام أمان للخيارات الجديدة.. لا يمكن أن نكون عدميين، فشخصيات مثل الطهطاوي وعلي عبدالرازق، وطه حسين، والطاهر الحداد وابن باديس وغيرها، خاضت معركة الحداثة بوسائلها المتاحة وحققت نتائج مهمة.. الأجيال اللاحقة، على الرغم من جهودها، من النخب المختلفة الوطنية، إلى الإسلامية، إلى اليسارية، وانتهاء بالليبيرالية، أو ما بعد الكولونيالية، إلا أنها ظلت عاجزة عن إنجاز الجديد والمتنور والدافع إلى الأمام في ظل غطرسة الاستعمارات الجديدة.
إلى اليوم لم نرَ جهدًا حقيقيًا في مستوى الرهانات، يعيد النظر في آلياته الثقافية والسياسية والفكرية وممارساته، ويضع مشروعًا جديدًا متجذرًا ومتفتحًا في الوقت نفسه، لا يكرر الأخطاء التي ارتكبتها الجهود السابقة.
إن نقد اليقين الفكري والوثوقية، أكثر من ضرورة إن أرادت هذه النخب أن تكون فعالة، وأن يكون لها مكانًا في مجتمعات عربية تتعرض اليوم لعواصف غير مسبوقة، ولهزات وجودية عنيفة.. لا خيار أيضًا للسلطات الحاكمة إلا التصالح مع التفكير النقدي، واعتباره حالة طبيعية يجب الإصغاء لها والتقرب منها.. بدون ذلك، لا شيء يتحرك أو يستقيم.. الحكيم هو من يظل مصغيًا لكل التوترات المهمة المحيطة به والمنبهة له، من أجل مصالحة حقيقية بين المجتمع ومؤسسات الدولة، حتى لا تزداد الهوة اتساعًا، ويكبر التكسر والشقاق في المجتمع، وهو ما لا يريده أحد لا لأرضه ولا لمجتمعه، ولا لنخبه الحية.