هكذا حدث الأمر..
وصلتُ إلى مطار الرياض، ضيفاً على هيئة الإذاعة والتلفزيون، في احتفاليةٍ ما.. كنت ممثلاً للمثقفين ولكتاب الرأي -على ما يبدو- في ذلك المحفل.. استقبلني شاب سعودي، قادني إلى سيارة في المطار، لتقلني إلى الفندق، حيث يُستقبل الضيوف.
من الجهة الأخرى، فُتحَ الباب، وصعد في المقعد المجار ضيف آخر؛ سلّم، ثم انطلقنا.. في زحمة الرياض -بعد لحظات- بادرني بالسؤال عن اسمي، وعملي.. عرف أني أستاذ في الجامعة فاسترسلنا قليلاً في الحديث عن الجامعة والطلاب والتعليم، وغير ذلك.
شاباً ظريفاً بدا لي، جُذبتُ إلى بساطته وصراحته وأعجبتني ثقته في نفسه.. سألته، فأجابني: طلال الشيخي.. لم أعرفه، فأكمل: (فنان كوميدي.. ستاند أب كوميدي). هنا بدأ الحديث عن هذا النوع الفني الحديث.. بدوتُ له غير متابع للفن، على الأقل في المملكة، وكان صادقاً.. حين سألني عن رأيي في هذا الفن (بصفتي أستاذاً جامعياً وكاتب رأي)، اتسعت حدقتاه قليلاً، وارتسمت على ملامحه ابتسامة رضا، من إجابتي بطبيعة الحال.
فن «ستاند أب كوميدي» -كما هو معروف- أمريكي الأصل، متأثرٍ بنوع بريطاني مشابه وسابق.. أول ظهور للمصطلح يشير إلى النوع الفني الحديث كان في أمريكا -على ما يبدو- منتصف العام 1948م، كما يرد في ورقة بعنوان (The Origin of the Term ‹Stand-up Comedy› - أصل مصطلح ستاند أب كوميدي).. لكنّ البريطانيين كانوا قد عرفوا هذا النوع سابقاً تحت مسمى (- Front-cloth comics كوميديا الستارة)، وهي فقرات ساخرة وقصيرة كان يقدمها في مسارح الموسيقى وغيرها كوميديون معروفون، يلقون مجموعةً من النكات والقصص الساخرة التي تحمل في طياتها غالباً نقداً سياسياً واجتماعياً.. تطور الفن في الولايات المتحدة، وانتشر بعد ذلك في بقية أرجاء العالم، ليصبح له أنواع، ومصطلحات، وتقنيات، وشروط، وجمهور، وأندية خاصة، تدعى غالباً (أندية الكوميديا).
ببساطة، يقف الفنان (الكوميدي) على خشبة المسرح، ليس معه إلا اللاقط (المايكروفون)، وأمامه الجمهور، الذي يتلقى نكاته، وسخريته اللاذعة من كل شيء ممكن، بالضحك والتصفيق. يرى الباحث بجامعة يورك سانت جون البريطانية سبستيان بلومفيلد، المتخصص في فن ستاند أب كوميدي تحليلاً وتأريخاً، أن هذا الفن لا يقوم على الكوميدي المؤدي فقط، بل يُبنى عبر التعاون بين الفنان والجمهور والمكان والجهة المنظمة للحدث. يشير بلومفيلد إلى ذلك التواطؤ السلمي بين كل هذه الأطراف، حول طبيعة الفن، والاتفاق على أُطره العامة؛ بحيث يحضر الجميع للضحك فقط، دون اعتبارات أخرى.
يدرك الجميع -وأولهم الحضور- أن السخرية اللاذعة قد تطال أي شيء، وأي أحد، بما في ذلك هم، حضور الحفلة. من هنا يتفق الجميع ضمناً على عدم أخذ ما يقال بجدية.. هي ليلة اشترى الضحكُ الحُر تذاكرها كاملة، كما يقال.. غير أن المفارقة أن كثيراً من السخرية تحمل نقداً مبطناً، ورسائل خفية، وهنا تكمن خطورة هذا الفن. (هذا -بطبيعة الحال- مصدر خطورة كل الفنون ومصدر عبقريتها كذلك).
أعرف أن الرأي المجتمعي حول هذا الفن لا يزال منقسماً؛ فهناك الكثير ممن يرونه نوعاً دخيلاً هداماً غير لائق بقيم هذا المجتمع ولا مبادئه (بعد كل حين تثور حملة هنا أو هناك بسبب مقطع مهرّب من عرض أقيم هنا أو هناك). لكنْ.. أمام هذا الكثير، كثيرٌ آخر تكتظ بهم قاعات العروض التي تنظمها الجهات المختلفة في مدن المملكة.. في جدة مثلاً، يبدو أن نادي الكوميديا يستقبل العدد الأكبر من زوار مبنى الجمعية على الدوام. «فل هاوس full house »، هكذا أجابني طلال في السيارة حينما سألته عن الإقبال الجماهيري على عروضهم في نادي الكوميديا. كنت قبلها قد ناقشته حول مدى فهم كثير من الكوميديين المحليين لشروط الفن ومبادئه، ولرسالة الفن. طلال اتفق معي أن هناك من المؤدين من لم يفهم بعدُ رسالة هذا النوع وقوانينه (كأنه يأخذ المسألة مجرد تهريج... هكذا اتفقنا). لكنّ طلال ظهر لي من نوع آخر؛ فقد شدد على أهمية التحضير، وفهم طبيعة الجمهور، وإدراك العمق الذي تحمله رسالة الفنان، مهما كان نوع الفن الذي يتمثّله. هذا الوعي الناضج أعجبني في طلال، فوعدته بزيارة لعرضه يوماً ما.. رحّبَ بي، ووعدني بأن يحجز لي مكاناً في عروضهم، التي تباع تذاكرها قبل شهور من تاريخها.
كنا قد وصلنا إلى الفندق.. في البهو، تحول المشهد إلى حفلةٍ صغيرة.. تجمّع الشباب والشابات حول طلال، بعضهم من العاملين في الفندق، وبعضهم مجرد عابرين. أحدث طلال ضجة صغيرة، ازدحم البهو، يطلبون صوراً معه، يأخذون توقيعه، ورقمه، ويسألون عن جدول عروضه. مشهد مدهش بالفعل؛ قبل دقائق، كنت مع طلال في السيارة، لم أعرفه.. لولا أنه عرّف بنفسه.. هنا -في بهو الفندق المزدحم- لا أحد يعرفني. لكنهم يعرفون طلال، ويتحلّقون حوله.. لأنه الفنان الشهير في الـ»ستاند أب كوميدي». كنت أبتسم معجباً.. تذكرتُ أنني سبقتهم، وأخذت رقم طلال.. حين كنا نتحدث وحيديْن في الطريق للفندق..!!