كشفت أرقام الميزانية التي تم الإعلان عنها خلال الأيام القليلة الماضية عن حقائق واضحة، في مقدمتها قوة الاقتصاد السعودي الذي استطاع الصمود في وجه الصعوبات التي عانى منها الاقتصاد العالمي خلال العام المنصرم، نتيجة لجائحة كورونا (كوفيد –
19) التي تسببت في ركود اقتصادي واسع لم تسلم منه أي من دول العالم، وأوضحت النظرة العميقة التي تنطلق منها السلطات السعودية والتي تقوم على مبدأ احترام الإنسان وضمان سلامته وتقديم صحته على كل الأولويات.
ورغم أن عام 2020 كان صعباً على الجميع بدون تمييز، بسبب انتشار المرض وما استلزمه من إجراءات صارمة في مقدمتها وقف الأنشطة الاقتصادية وإغلاق الدوائر الحكومية بشكل كامل لعدة أشهر متتالية، إضافة إلى حِزم الدعم المتنوعة التي قدمتها المملكة لقطاعها الخاص وإنفاق مئات المليارات لدعم مؤسساته، لضمان وظائف المواطنين، إلا أن الاقتصاد السعودي لفت أنظار الجميع بقدرته الفائقة على الصمود في وجه العاصفة، والمرونة العالية التي يتمتع بها، إضافة إلى إدارة الأزمة بصورة مدهشة، والموازنة بين الإجراءات الاحترازية وتوقيت العودة التدريجية للنشاط الاقتصادي، مما أسفر عن تقليل تداعيات الجائحة على الأنشطة الاقتصادية، وتخفيف آثارها السلبية على الاقتصاد بأقل مما كان متوقعاً في وقت سابق.
ويشير كثير من الاقتصاديين والمحللين الماليين إلى أن السبب الرئيسي في مرونة الاقتصاد السعودي يعود إلى المكتسبات التي تحققت منذ إقرار رؤية المملكة 2030 التي حرَّرت الاقتصاد من عبء الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل، وهو ما مهَّد الطريق للانطلاق نحو مزيد من التطور والتقدم في مختلف المجالات الاقتصادية والتنموية.
من أبرز المؤشرات الإيجابية التي حملتها الميزانية الجديدة تراجع الإيرادات النفطية التي بلغت 412 مليار ريال، وهو ما يعادل 53.5%، وفي المقابل سجلت الإيرادات غير النفطية مستوى قياسياً بنحو 358 مليار ريال، وهو ما يعادل 46.5%
من إجمالي الإيرادات. هذا التطور هو نتاج طبيعي لما أقرته الرؤية من ضرورة تنشيط بقية القطاعات الاقتصادية لتجنب مخاطر أي اهتزاز في أسواق النفط العالمية، إضافة إلى إيجاد فرص وظيفية جديدة للشباب.
وكانت كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- واضحة خلال إقرار الميزانية، حيث شددا على ضرورة الاستمرار في النهج الذي يرمي إلى تنمية دور القطاع الخاص من خلال تسهيل بيئة الأعمال، والتقدم في برامج التخصيص، وإتاحة مزيد من الفرص أمام رجال الأعمال للمشاركة في مشاريع البنية التحتية، وتطوير القطاعات الواعدة والجديدة، والاستمرار في تنفيذ برامج ريادة الأعمال والأخذ بأيدي الشباب للرفع من إسهامهم في التنمية الاقتصادية، وزيادة دورهم الفاعل في تنمية المجتمع، ودعم المحتوى المحلي.
ومن أكثر ما يلفت النظر في الأرقام التي احتوت عليها الميزانية الجديدة زيادة الإنفاق على الجوانب الاجتماعية، مثل تنفيذ البرامج الإسكانية والمشاريع التنموية، وتحقيق مستهدفات الرؤية، والتركيز على رفع كفاءة الإنفاق الحكومي، والاهتمام بالحماية الاجتماعية، والحد من الهدر ومحاربة الفساد.
كذلك جددت المملكة تأكيدها على الاستمرار في تنفيذ المشاريع النوعية التي قطع العمل فيها شوطا كبيرا، مثل مشاريع القدية ونيوم والبحر الأحمر وأمالا، إضافة إلى مشاريع البنية التحتية، ومواصلة العمل بنفس الوتيرة الحالية، لما تمثله هذه المشاريع من إضافة للاقتصاد الوطني سوف تنعكس إيجاباً بإذن الله على الناتج المحلي الإجمالي.
ولا ننسى أنه على الرغم من أن كثيراً من الدول الكبرى اضطرت في ميزانياتها الجديدة إلى تقليل الصرف على برامج الخدمات العامة نتيجة لما مرت به من ظروف استثنائية خلال هذا العام نتيجة جائحة كورونا، إلا أن المملكة تمسكت بضمان عدم تأثر مواطنيها بهذه الظروف، ويتضح ذلك من خلال زيادة الإنفاق على قطاع البنود العامة الذي يتضمن حصة الحكومة في معاشات التقاعد، والبرامج والمرافق الحكومية والإعانات ومخصصات الطوارئ. حيث زادت مصاريف هذا البند بحوالي 7.2%
مما كان عليه خلال العام المنصرم ليصل إلى حوالي 151 مليار ريال.
وبعيداً عن لغة الأرقام فقد مثّلت الكلمة الضافية لخادم الحرمين الشريفين رسائل مهمة حملت في طياتها التأكيد على توفير رعاية كريمة لصحة وعيش الإنسان، ودعم تطوير الخدمات، ومواصلة البرامج التنموية الشاملة لتحقيق الازدهار الاقتصادي. وجاءت كلماته بمثابة البلسم وهو يعلن مواصلة المملكة السير على الطريق الذي اختطته منذ بداية ظهور الجائحة، والاستمرار في اتخاذ إجراءات احترازية وتدابير وقائية وتقديم العلاج مجانا لجميع من أصيبوا بكورونا من المواطنين والمقيمين، وهو ما يؤكد استحقاق هذه البلاد للقب «مملكة الإنسانية» بكل جدارة.