· يروي أحد الأصدقاء أنه استخدم جاهه وعلاقاته في الشفاعة لتوظيف شاب في شركة يديرها أحد معارفه، مُقسماً بأغلظ الأيمان أنه لولا كفاءة الشاب و (نزاهته)، فضلاً عن مؤهله العالي لمَا تدخَّل في موضوعه.. ولكن لم تمضِ عدة أشهر على تلك الشفاعة (المبررة) حتى اتصل عليه صديقه مدير الشركة معتذراً عن تسريحه للشاب بقوله: صاحبك هذا (محبّكها مرّة) وما يصلح يشتغل معانا!!.. وبعد البحث والتقصي اتضح أن جريمة ذلك الشاب هي أنه لم يقبل القيام بدور(الرائش) للشركة التي اعتادت تقديم بعض الرشاوي لـ(تسليك) أمورها تحت مسمى (هدايا)، كما رفض الدخول في لعبة العمولات التي تعد أمراً مألوفًا ومعتاداً في بعض البيئات الفاسدة!.
· التسريح من وظائف البيئات الفاسدة ليس فشلاً، بل هو نجاح ونجاة، والقصة برمتها ذكَّرتني بعبارة لأمين معلوف في رواية (رحلة بالداسار) يقول فيها: «في مكان يرضى فيه معظم الناس بالمال الحرام، يبدو المرء الذي يصرّ على الرفض تهديداً للآخرين، وواشياً محتملاً، ويبذل الجميع ما بوسعهم للتخلص منه». وهذه حقيقة، فأن تكون شريفاً فى بيئة فاسدة هو أمرٌ شاق وخطير ولا شك، فالفاسدون لا يقبلون إلا من هم على شاكلتهم، بينما يبدو الملتزم بينهم خطراً وتهديداً محتملاً يجب الخلاص منه بأسرع وقت!.
· من السهل جداً أن تكون شريفاً بين مجموعة من الشرفاء ولكن الصعوبة كل الصعوبة في أن تمارس قيمك النبيلة في بيئة لا تعرف هذه المفاهيم أصلاً، وسيكون منظرك غريباً وسلوكك أغرب، ومبادئك أغرب وأغرب كلما تمسكت بأخلاقك وقاومت الفساد!.. والمشكلة عندما تصبح هذه البيئات لكثرتها وكثرة من يقبلون بها وكأنها هي الصواب وغيرها الخطأ، فتنقلب المفاهيم رأساً على عقب، كأن تكون شريفاً ويعاملونك كمجرم، أو أن تكون نزيهاً ويعاملونك كمشتبه به، أو أن تكون حراً ويعاملونك كمطية مملوكة.
· لم تعش بلادنا طوال تاريخها حرباً أشرس ولا أعنف على الفساد من الحرب الحالية التي يقودها خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد أيدهما الله، ورغم سقوط العشرات من الفاسدين وهي أخبار تثلج صدور المواطنين المخلصين وتشفيها، إلا أن المعركة تبدو طويلة وبحاجة لتعاون كل مواطن من أجل تحجيم هذه الآفة، واستبدال البيئات الفاسدة بأخرى نظيفة ومفيدة للوطن والمواطن.
· بلادنا وهي متجهة نحو رؤية عظيمة يقودها سمو ولي العهد باقتدار لا تحتاج أن تكون (شريفاً سلبياً) تدعو من منزلك على الفاسدين، وتفرح لأخبار سقوطهم في الصحف ثم تعجز عن الإدلاء بحرف واحد ضد الفاسدين، بل هي بحاجة لشريف إيجابي يساهم في الحرب ضد الفاسدين بفاعلية، ويعمل من أجل مستقبل أبنائه وأحفاده ولو بصناعة وعي شعبي بضرورة اقتلاع تلك البيئات الفاسدة التي تنفي الشرفاء وتزيحهم من المشهد كله لمجرد أنهم شرفاء بين عديمي الشرف، ونظيفو اليد بين اللصوص.