مرت علينا قبل أيام ذكرى رحيل شاعرنا النبيل محمد الثبيتي.. ولأنه الثبيتي، أبرز الشعراء الذين أنجبتهم المملكة حتى يومنا هذا -في رأيي-، فقد كان حضوره مكثفاً في كل مكان، وعلى كل لسان.. كانت ذكراه أشبه بحفلة تعارف جديدة، اجتمع فيها محبو الثبيتي، ليتعرفوا على بعضهم أكثر، بعدما جمعهم هو حول شعره وعبقرية إبداعه.
أتذكر اليوم أن الجماهير التي حضرت له عند عودته لأدبي جدة عام 2006م، بعد غياب دام عشرين عاماً، كانت تردد معه نصوصه بانتشاء قلمًا يكون له نظير.. ليلتها، حين بدأ الثبيتي بإلقاء نصه الشهير الصغير (تعارف)، ضج الجمهور بالتصفيق، بعضهم وقف ينشد معه، وبعضهم اقترب من المنصة، وهو يضحك.. ويتمتم كلماته بألق.. يتمم مراسم التعارف التي أرساها من جديد.. قال:
غرفةٌ باردَةْ
غرفةٌ بابها!؟
لا أظنُّ لها أيَّ بابٍ
وأرجاؤها حاقدَةْ
غبشٌ يتهادَى على قدمينِ
وصمتٌ يقوم على قَدَمٍ واحدَةْ
لا نوافذ
لا موقد
لا سرير
ولا لوحة في الجدار ولا مائدَةْ
اليوم.. لا يزال هذا النص علامة من علامات شعرية الثبيتي، يتردد بين المريدين، ويسافر مع الحالمين. يتكون النص من ثلاثة مقاطع، يمكن أن نعدها قوى معمار النص، حيث تؤدي كل قوة دورها، بالتفاعل بين عناصرها، حتى يبلغ النص قمة توتره في النهاية.
يضم المقطع الأول قوةَ الوصف، وتقوم هذا القوة بدور تأثيث المشهد: تصف المكان والأجواء، كما تصف حال السارد الضمني أيضاً: (غرفة، بلا نوافذ، ولا موقد.. ولا لوحة) (باردة، غبش يتهادى، وصمت يقوم)، (غرفة بابها.. لا أظن لها أي باب.. حاقدة). يقدم هذا الجزء مكاناً غريباً، وغرفة لا تشبه الغرف، بلا أبواب، ولا نوافذ، ولا نور، ولا أحاديث.. هذا المكان الغريب يشي بالتوتر، بالظلمة، وغياب الحميمية. ويقدم عبر ثمانية عشر اسماً (مقابل فعلين فقط) مسرحاً موحشاً.. يترقب أحداثًا وشخصيات ستأتي في المقطع الثاني الذي تتسيده قوة الحدث، ويؤدي دوراً مهمًا في تحريك المشهد، حيث يبدأ السرد في صنع الحدث: 1) السارد يستمر في الحكي عن 2) شخص يذوي بقربه،3) السارد شخصية من شخصيات القصة (سارد من الداخل). الشخص متألم حزين.. (يطوي على ألم ساعده). الغموض يلف الحدث. يفقد السارد صبره: فيؤجج نار الحقيقة، يهمهم بالقول: لا فائدة..!! لاحظوا عدد الأفعال في هذا الجزء:
حين أجّجتُ نارَ الحقيقةِ حولي
وهَمْهَمْتُ بالقول: لا فائدَةْ
كان يثوي بقربي حزيناً
ويطوي على ألمٍ ساعدَهْ
ليبدأ بعد ذلك المقطع الثالث والأخير حيث يكون الحوار المحرّكَ الذي يأخذ المشهد لذروته: فبعد أن يستجمع السارد جرأته، ويكسر حاجز الصمت المريب، ليسأل.. يظهر صوت الشخصيتين، في حوار قصير مقتضب:
- قلت: من؟
- قال: حاتم طيءٍ
- وأنت؟
- فقلتُ: أنا معن بن زائدة؟
ثم صمتٌ.. مثل صمت البدايةِ الذي يلف الغرفة..
يكشف الحوار المقتضب عن شخصيتين مؤثرتين ومهمتين في التراث العربي، تمثلان الكرم والحكمة، لكنهما تبدوان غريبتين عن بعضهما، لا تتعرفان على بعضهما، ولا يبدو أن الظروف المحيطة، تجعلهما يريدان أن يتقدما أكثر في تعارفهما، إذ ينتهي المشهد هنا.. ولم ولن تنتهي الدلالات التي يشعلها هذا النص في عقول القراء.
أفكّر الآن في الثبيتي حين اختار هذا النص في تلك الأمسية.. هل كان يقول شيئاً ما؟ وهل كنا -نحن جمهوره- نعترض على شيء ما ونحن نقاطعه ونطلب منه المزيد؟!!
وماذا عن كل هؤلاء الذين اختاروا أن يدندوا في ذكرى رحيله هذه الأيام:
غرفة باردة!!
غرفة بابها...