في الأثر عن رسولنا الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم قوله: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ».. وقيل في الأمثال: «الجارَ قبلَ الدارِ».. وكان العرب حتَّى قبل الإسلام يَتفاخرون بحُسن الجوار، يكرمون الجار ويحسنون إليه، ويأَدُّون الواجب نحوه عَلَى خير ما يرام.. وقد حرصوا بعد إسلامهم على استمرار هذا الخلق العظيم بمراعاة حقَّ الجار، امتثالًا لقوله تعالى: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ﴾.. فالله تبارك وتعالى، أوجَبَ على المُسلم أن يُحسن للجار قريبًا أم بعيدًا، عربيًّا أم أعجميًا، من دون تمييزٍ بين عرقٍ وعرق، أو لونٍ ولون.. فالجار سواءٌ كان مُسلمًا أو غير مسلم، له احترامُه ومَكانته واعتِباره وحقوقه.
قبل الطفرة العمرانيَّة التي عمَّت مملكتنا، كان القدامى من أهالي المدينة المنوَّرة، على سبيل المثال، يفضِّلون السكن داخل الأحواش؛ مجموعة منازل تحيط بساحة واسعة لها مدخل بباب يمكن التحكُّم بفتحه أو غلقه متى استدعت الحاجة.. وكان الترابط الاجتماعي القوي الذي يعزِّز التعاون والتكاتف فيما بين سكان الحوش الواحد من أهمِّ فوائد هذه الأحواش أو الحارات المغلقة وأكبرها.
كانت في تلك الأحواش توجد باحة داخليَّة لمرح الأطفال، ولإحياء المناسبات الأسريَّة والاجتماعيَّة كذلك.. وكان سكَّان الحوش مثل الأسرة الواحدة، ويتناوبون على حراسة البوابَّة وقفلها في أوقات محدَّدة لتأمين الدخول إليه والخروج منه.. ظلَّ ذلك سائدًا إلى أن تمكَّن الملك المؤسِّس -طيَّب الله ثراه- من لمِّ شمل المواطنين وتأمين أمنهم وسلامتهم.. وسرعان ما أضحى انتشارهم الواسع والسريع خارج أسوار المدن التي أزيلت أسوارها لتستوعب الزيادة السكانيَّة، وتجاري متطلَّبات العصر.. أعيد تخطيط المدن وتشييد مساكن راقية التصميم والتنفيذ تضاهي العديد من المدن بما توفِّره من خدمات العيش الكريم.
اليوم، ولغرض توسعة الحرم المدني الشريف ليستوعب الأعداد المتزايدة من ضيوف الرحمن سنة بعد سنة، فقد أزيلت الأحياء التراثيَّة في المدينة المنوَّرة وبما فيها من أحواش.. وهكذا أصبح حديث الجدود ينصبُّ على ماضيهم الجميل في الأحواش، وما كان بين سكَّانه من إلفة وتعاون، وبين حاضرهم منذ قيام المملكة العربيَّة السعوديَّة، والتحم ترابها الوطني من الخليج العربي شرقًا إلى البحر الأحمر غربًا، ومن الشام شمالًا إلى اليمن جنوبًا.. وتوثَّقت عرى المواطنة بين أطياف المجتمع كافَّة، واستتبَّ الأمن والأمان في أنحاء المملكة.. وقد أكرم المولى بلدنا بثروات طبيعيَّة كانت مدفونة تحت الرمال وفي أعماق البحار، وجلب استثمارها الخير والرفاه للمواطنين، والعون للجيران القريبين منهم والبعيدين.. وتقدَّم المساعدات الإنسانيَّة لكلِّ من نشترك معهم في الحياة فوق كوكبنا الأرضي، وفاء بحق الجوار القريب والبعيد، دون منَّة أو تكبُّر امتثالًا لقوله تعالى: ﴿والَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.
وممَّا يستحقُّ التوثيق؛ أنَّ تقاسم الثروات مع الجيران بدأ منذ قيام المملكة العربيَّة السعوديَّة، وكانت مواردها غاية في التواضع؛ تكاد في كثير من الأحيان لا تكفي رواتب موظَّفيها وجندها.. فكان يُصرف بدلًا من النقود قليل من الرز واللحم والتمر.. ومع ذلك الضنك، كانت المساعدات ترسل للمجاهدين في بلاد الشام وشمال أفريقيا للتحرُّر من الاستعمار.. وما تزال كفُّ المملكة خيَّرةً ومعطاءة.. وقد أفاء المولى عليها من الثروات ما رفعها إلى مصافي مجموعة العشرين الأكثر ثراء ورفاهية.. ويبقى الشكر لله على فضله وكرمه، وحكمة أُولي الأمر منَّا وتدبيرهم.. وتبقي كفُّ المملكة الخيِّرة ممدوة للعطاء.. فبالشكر حقًّا تدوم النعم ولو كره الحساد.