في واحد من أشهر الأعمال السينمائية الحديثة وأعظمها نهاية القرن المنصرم، قدّم فرانك درابون (Frank Darabont) تحفة فنية حقيقية متمثلة في فيلم (سجن شوشناك- The Shawshank Redemption). بطل الفيلم -والراوي الرئيس للقصة فيه- هو ريد (Red)، الذي يؤدي دوره البطل العالمي مورقن فريمان (Morgan Freeman)، ويحكي قصة آندي (Andy) الذي يؤدي دوره تيم روبسنون (Tim Robbins) بإتقان مدهش.
يحكي الفيلم قصة آندي، الذي يتهم ظلماً بقتل زوجته ويحكم عليه بالسجن مدى الحياة.. يبني آندي علاقات إيجابية مع عدد من السجناء أهمهم ريد، وينتهي به المطاف هارباً من السجن (ومن أمريكا) بعد أكثر من 18 عاماً.. لا يزال الفيلم يحتل الصدارة على شبكة IMDB الشهيرة، وهو يستحق هذه المكانة في رأيي.
في أول لقاء بين آندي وريد، يدور هذا الحوار بين بطليْ الفيلم:
- Thank you Mr......?
- Red
- ? Red..!! why do they call you that
- Maybe because I am Irish..!!
يتحدث أندي مع ريد، في الساحة، في لقائهما الأول، ثم يقول أندي:
- شكراً سيد...؟
- ريد (أحمر).
- ريد؟! لماذا ينادونك بذلك؟
(يفكّر ريد قليلاً)، ثم يجيب بعفوية:
- ربما لأني أيرلندي..!!
لا يبدو في هذا الحوار الصغير ما يثير الدهشة، لكن ربطه بسياقه سيساعد؛ فالبطل (أحمر - Red) رجل أسود.. يؤدي دوره مورقن فريمان كما قلنا.. وأن يطلق عليه أحمر، فهذا أمر غريب، كما أن إجابة ريد تزيد الأمر غرابة.. (ربما لأني أيرلندي)!!
يرتبط الاسم، وإشارته للون، بالعرق الأبيض، الذي يحيل على الأصل الأيرلندي، لكنّ الرجل الذي يدّعي أنه أيرلندي هنا ليس كذلك، فهو أمريكي من أصل إفريقي.. ورغم أن المشهد ظريف وساخر كما هو، فإن إدراك أبعاده العميقة يحتاج لمعرفة تتجاوز حدود الفيلم.
الفيلم مقتبس من رواية قصيرة (نوفيلا) للروائي الشهير ستيفن كنق (Stephen King)، الذي بيع من أعماله أكثر من 350 مليون نسخة.. عنوان روايته المقتبسة في الفيلم هو (ريتا هيورث وسجن شوشانك- Rita Hayworth and Shawshank Redemption)، والسارد الرئيس فيها هو ريد، لكنه في الرواية أيرلندي أبيض، وليس من أصول إفريقية كما يظهر في الفيلم.. وعند لقائه الأول بالبطل آندي، يتباهى ريد بأنه يستطيع إحضار أي شيء للسجناء، وحين يتساءل آندي -متعجباً- كيف يفعل ذلك، يجيبه ريد:
"Sometimes," "things just seem to come into my hand. I can't explain it. Unless it's because I'm Irish."
- "أحياناً.. يبدو أن الأشياء تسقط في يدي هكذا.. لا أستطيع تفسير ذلك.. إلا إذا كان ذلك لأنني أيرلندي".
هذا ما يدور في حوار التعارف بين البطلين في الرواية الأصلية، لكنّ مخرج الفيلم قرر أن يغيّر في شخصية البطل الراوي، ليجعله رجلاً أسود -وقد كان تغييراً موفقاً في رأيي-، كما لم يكتفِ بذلك، بل إنه أضاف مشهدَ (ربما لأني أيرلندي)، ليكون إيماءة ساخرة للبطل الحقيقي في الرواية (ريد الأيرلندي).
وإن كان تغيير شخصية البطل خطوة جريئة، فلأنها استدعت تغييرات كبيرة على العمل، حال تحويله لفيلم سينمائي، لكنّ جرأة الإشارة في الحوار تبدو أكبر، حين يعرّض البطل السينمائي بالبطل السردي في الرواية، أي حين تهزأ الشخصية من نفسها، وتسخر من نسختها الورقية.
هناك الكثير مما يمكن أن يقال حول هذا التغيير، وحول هذه العبارة الساخرة في هذا المشهد؛ فهل تقول سخريةُ الشخصية السينمائية (الرجل الإفريقي الأصل) من نسختها الورقية (الرجل الأيرلندي الأبيض)، التي تعد الأساس والأصل، شيئاً غير ما يظهر؟! وهل في المسألة تعريض بذلك الوعي الذي يحصر القدرة والتفوق للرجل لأبيض (ذلك الذي يفعل كل شيء، ويحصل على كل شيء)، حتى وهو سجين مقّيد الحرية!! ربما... من يدري!!
لقد استطاع درابون صنع عمل سينمائي خالد، ستظل الأجيال تشاهده بدهشة، وتضعه في أعلى مراتب التقييم.. ولعلها ستظل تعجب من سخرية ريد.. من نفسه.. ومن كاتب الرواية.