كانت الزوجة إلى وقت قريب عندما تتحدث عن زوجها تصفه في أحيان عديدة بـ"أبونا"..
وبالرغم من غرابة اللفظ في نظر البعض الآن إلا أنه يحمل معاني ومدلولات لن يفهمها معظم أبناء الجيل الحالي.
كان الزوج فيما مضى هو السند والمعين والمعيل والناصح والحمال والمربي والعامل.
ولكنه قبل كل ذلك كان أبًا.. نعم كان بمثابة الأب حتى لزوجته.
تجده يحنو عليهم ويرعاهم ويحمل همهم لدرجة نسيان نفسه.
كان "أبونا" ينشغل في الأعياد بشراء حاجيات أبنائه وينسى أو يتناسى نفسه ليقوم بعد تذكيره بادعاء النسيان وتهيئة بعض الملابس المناسبة بديلا عن الجديد..
كان "أبونا" يسعى ويكد ليلا ونهارًا لتوفير حاجيات أبنائه ولو واجه ضائقة مالية سيخفيها بكل اقتدار عن أسرته وسيتحمل هو فاتورة التعويض سواء بالعمل الاضافي أو الاستدانة دون شكوى.
كان يبدو قاسيًا بعض الأحيان حرصًا على أبنائه ويؤنب ويلوم أو يعاقب ليبات من قل حظه تلك الليلة مرددًا "أبي لا يحبني" وهو لا يعلم بأن "أبونا" قد جافاه النوم تلك الليلة حزينًا على ما اضطر لفعله وقد يذهب ليلقي نظرة على فلذة كبده بعد أن غط في نومه معتذرًا بلغة لن يسمعها أحد سواه.
كان "أبونا" يعاني.. نعم يعاني وأنتم لم تعرفوا إلا متاخرًا لأنه كان بطل العالم في الكتمان وإخفاء أوجاعه حرصًا على ألا يكدر أو يقلق زوجته وأسرته.
قد تقوم معارك كلامية بينه وبين زوجته لشراء فستان أو حلي أو ترميم أجزاء من المنزل ويرفض بكل حزم وتغضب الزوجة ولكنه في نهاية المطاف يقوم بتوفير ما تريد ولو فاق طاقته عرفانًا وإكرامًا لشريكة حياته وجبرًا لخاطرها.
قد لا تسمع الزوجة أو الأبناء منه كلمة أحبك ولكنه كان يقولها آلاف المرات بعينيه ونظراته التي قد تبدو جامدة لوهلة ولكن ما أن تسبر أغوارها حتى تتفاجأ بكم العطف والحنان والمحبة والوفاء التي تحملها.
كان قليل الحيلة في الأفكار الرومانسية والألفاظ الرنانة ولكنه كان صادقًا.
نظرة عينيه إلى زوجته تملأهما كل عبارات التقدير والعرفان والحب الصادق.
كان "أبونا" يعاني عند مرض أو غياب أبنائه وزوجته لسفر ونحوه حتى بعد أن كبروا وتنتابه نوبات القلق حرصًا واهتمامًا وخوفًا من أن يصيبهم مكروه ولكنه في نفس الوقت يخفي ذلك بكل اقتدار.
ألم أقل لكم بأنه بطل العالم في الكتمان.
حتى أتت اللحظة الصعبة التي كشفت كل مستور وجرى عليه ما قدره الله على خلقه وانتهى استخلافه في الأرض بأن المستور وانكشف ما كان يدور.
بأنه كان أكثر من كان يخفي ولا يظهر من حقيقته إلا اليسير اليسير..
أي حب أصدق من هذا الحب وأي وفاء يمكن أن يصل لهذا الحد وكل هذا دون ترقب للقطة كاميرا أو شكر علني أو ثناء من أي أحد.
رب اجبر كسر كل من فقد "أبونا" وعوضهم خيرًا وارزقنا في قادم الأيام طرفًا من طرف خصالهم.