في العام 2013، ظهر الفيلم الأمريكي (Her) الذي يمكن أن يصنّف ضمن أفلام الخيال العلمي الرومانسية، بإخراج مميز من الكاتب والمخرج الأمريكي سبايك جونز (Spike Jonze)، وبطولة الممثل العجيب خواكين فينيكس (Joaquin Phoenix).. يناقش الفيلم علاقةَ الإنسان بالآلة (التقنية) من زاوية مختلفة وحساسة، زاوية تستحثُّ أسئلة جديدة حول مستقبل الإنسان وآفاقه وحدوده في حمى التطور التكنولوجي المتسارع.
ثيودور -بطل الفيلم الذي يؤدي دوره فينيكس- شخصٌ غرائبي الطباع، تعرض لصدمة انفصال عن زوجته وحب حياته.. ما قاده إلى العزلة النفسية، التي جعلته ينتمي ولا ينتمي لعالم البشر، يعيش طواعيةً في شبه عزلة، ليس بينه وبين البشر اتصال حقيقي.
في خضم حلمه اليقظ، يبحث ثيودور عن علاقة تسدُّ حاجة روحه البشرية، وجسده البشري كذلك.. لكنه لا يريدها مع كائن بشري؛ فالكائن البشري لا بد أن يأتي بحمولاته، وتاريخه، وتصوراته، وعقده (النفسية والاجتماعية). من هنا يقرر أن يدخل في علاقة مع برنامج، برنامجٍ صوتي، الصوتُ فيه أنثوي لبرنامج رقمي ذكي ذكاء اصطناعياً (ذكي عاطفياً، واجتماعياً، وثقافياً...). تتطور العلاقة بين البطل وسمانثا (الفتاة/الصوت في البرنامج)، وهو بالمناسبة صوت مميز يعود للفنانة سكارلت جوهانسن (Scarlett Johansson). يتعلق ثيودور بالفتاة، يحبها، ويدخل معها في عالمها، لينفصل كلياً عن الوجود (كما يفعل أي عاشق في مطلع أيام عشقه).
في واحد من المشاهد، يقرر أنه يريد أن يراها.. فتوافق (أقصد يوافق البرنامج)، ولأنه برنامج ذكي جداً، فقد عرف المواصفات المناسبة لفتاة أحلام البطل، وهكذا يتفق البرنامج مع فتاة جميلة، تعمل داخل الشبكة الذكية، لتذهب إليه وتقابله في منزله.. الفتاة التي يفترض بها أن تؤدي دور سمانثا في البرنامج هي سكارلت جوهانسن، وما تمثّله جوهانسن في سياق الجمال بمفهومه الحالي مسألةٌ لا يمكن تجاوزها في سياق خطاب الفيلم والحركة ما بعد الإنسانوية، حيث تعد جوهانسن نموذجاً مثالياً للفتاة الجميلة وفقاً لمعايير هوليوود العصرية (وهي معايير طاغية ومؤثرة على نطاق عالمي كما نرى ونشاهد).
تأخذ الأحداث منعطفاً خطيراً في أحد المشاهد الدالة: ثيودور جالس في مدخل المترو المكتظ بالناس الداخلين أو الخارجين من المحطة، لكنه كان معزولاً تماماً عن ضجيج هذا العالم، معزولاً عن كل ما حوله، وهو يحاورها (أي الفتاة/الصوت في البرنامج). في المشهد يدور الحوار التالي:
- هل تتحدثين مع أحد غيري؟ أعني أثناء حديثنا الآن؟ (يسأل ثيودور).
- نعم..
- هل تتحدثين لشخص ما الآن؟ الآن بالضبط؟
- نعم أفعل (يرِقُّ صوتها)
- كم عددهم؟ (أي كم عدد الذين تتحدثين معهم الآن أثناء حديثك معي؟)
- 3316...
- هل أنت واقعة في الحب مع شخص آخر؟ هل تحبين غيري؟ (يسأل ثيودور بحذر وقلق).
- ما الذي يجعلك تسأل هذا السؤال؟ (صوتها يرقّ أكثر).
- لا أعلم.. هل تحبين غيري (بإصرار).
- كنت أحاول أن أجد طريقة مناسبة لأحدثك حول هذا الموضوع. (تجيب سمانثا بحذر).
- كم عدد العاشقين؟ (يسأل محبطاً).
- 641 عاشقاً!! (تجيب).
مصدوماً يعلق ثيودور:
- ماذا؟؟ ما الذي تتحدثين عنه؟ هذا جنون... هذا جنوووون.
- أعرف.. أعرف.. أن هذا يبدو جنوناً، لكنه لا يغيّر الطريقة التي أشعر بها نحوك، ولا يقلل من مستوى الجنون الذي أعشقك به. (ترد سمانثا باكية).
- لكن.. كيف؟؟ كيف.....
حينها، يدرك البطل أن حبيبته التي شغفها حباً تحب في الوقت ذاته أكثر من ستمئة إنسان، بالطريقة ذاتها التي تحبه.. هي ليست له لوحده.. لكنه لها لوحدها.. (يا لخطورة هذه الجملة الأخيرة.. فقط لو أمعنا النظر فيها). ينكسر ثيودور، ويدخل في حالة إحباط واكتئاب سوداء... حتى النهاية.
هل نعود لعنوان الفيلم (Her- هي/ أو مِلكها).. من هي هذه الـ(هي) التي يعنيها العنوان؟
هل هي فتاة البرنامج؟ هل هي التقنية؟ أم هي الأنثى؟
لعلها تكون الحياة.. الحياة بوصفها (هي).. الحياة التي تملكنا.. حين تكون أكبر من أي حضور.. وأصغر من ضمير غيبة.