يستقبل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها هذه الأيام ضيفاً عزيزاً عليهم، هو شهر رمضان المبارك الذي جعله الله موسماً للمغفرة وتكفير الذنوب، وأكثر فيه من العطايا لعباده، وحببهم في فعل الخيرات خلال هذا الشهر، وبلغ من تعظيم هذا الشهر أن اختصه الله بإنزال القرآن الكريم، وجعل فريضة الصوم لوجهه الكريم ووعد الصائمين بالجزاء والثواب العظيم.
اعتاد أكثرية الناس في المملكة العربية السعودية على استقبال هذا الضيف العزيز بالإكثار من الطاعات، والتفرغ للعبادة، إلا أن هناك ممارسات سالبة بدأت في الظهور منذ فترة ليست بالقصيرة، وهي تتناقض مع مقاصد الشرع الكريم الذي أراد من شعيرة الصيام منذ طلوع الفجر وحتى غروب الشمس أن يشعر الأغنياء بما يقاسيه الفقراء والمحرومون، وأن يلفت نظرهم إلى ضرورة إعانتهم وتقديم المساعدة لهم، كواحدة من أهداف وحِكم مشروعية الصوم.
ولكن للأسف الشديد فإن البعض وبدون أن يدري يتجاهل تلك الغاية النبيلة، حينما يجعلون الشهر الكريم مناسبة للإسراف والتبذير والإنفاق غير الضروري عبر الإكثار من أصناف الطعام والشراب التي تحفل بها موائد الإفطار، وفي النهاية يكون مصيرها صناديق النفايات لأنها زائدة عن الحاجة الفعلية.
ومن العادات السالبة التي يمارسها البعض خلال هذا الشهر الكريم الميل إلى العصبية والنرفزة وعدم التحلي بفضيلة الصبر، بزعم الإرهاق النفسي من الصوم، رغم أن في مقدمة المكاسب التي ينبغي أن يجنيها الإنسان من هذا الموسم الرباني اكتساب صفات الصبر والحلم والأناة، فكثيراً ما نلاحظ اندلاع المشاحنات بين البعض خلال النهار، بل إن البعض قد يصل بهم الحال إلى حد التشاجر بالأيدي وتبادل الشتائم والسباب، متجاهلين قوله صلى الله عليه وسلم (رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش).
إضافة إلى ما سبق يهدر البعض معظم ساعات النهار في النوم، مع أن الله تعالى جعلها فرصة للاستغفار والتعبد، وذلك نتيجة للسهر إلى أوقات متأخرة من الليل، حيث تعج الأسواق بالمتسوقين وتمتلئ الشوارع بالمارة. حتى الأطفال لم يسلموا من تلك العادة السيئة فنجدهم مستيقظين إلى ساعات الفجر الأولى.
وبما أن الشهر الكريم يحل علينا هذا العام في ظروف استثنائية فرضتها جائحة كورونا (كوفيد – 19) التي يعيشها العالم في الوقت الحالي، فإن المصلحة العامة تقتضي منا التحلي بالحكمة، والتخلي عن كل ما يتعارض مع المناشدات التي تطلقها الأجهزة المختصة بضرورة الابتعاد عن التجمعات، والبقاء لأطوال فترة ممكنة في المنازل.
وقد لاحظنا جميعاً كيف أن عدم الانضباط بالإجراءات الاحترازية يعيدنا خطوات كثيرة إلى الوراء، وذلك من خلال موجة الارتفاع الحالية في أعداد المصابين، وهو ما يهدر كافة الجهود التي تبذلها السلطات المسؤولة عن مواجهة المرض، نتيجة لتصرفات فئة لم تتحلّ بالأخلاق ولم تتمتع بحس المسؤولية.
ومما يثير المخاوف هو أن يتحول الشهر الكريم إلى فرصة للمستهترين ليمارسوا ما اعتادوا عليه من تصرفات مرفوضة ويضربوا بالإجراءات الاحترازية عرض الحائط، رغم المناشدات العديدة التي تطلقها الأجهزة المختصة في وزارة الصحة للتنبيه بخطورة الأوضاع الصحية وضرورة الابتعاد عن التجمهر وأماكن التجمعات.
نحن الآن في مرحلة مفصلية من تاريخ البشرية، حيث نواجه عدواً يتربص بنا الدوائر وينتظر فرصة للانقضاض وتهديد الصحة العامة، وقد تسبب ذلك العدو في مقتل الملايين حول العالم ولا يزال يملك القدرة على زيادة عدد ضحاياه. وقد بذلت حكومتنا الرشيدة ولله الحمد جهوداً مضنية خلال الفترة الماضية وأنفقت أموالاً طائلة واتبعت سياسات حكيمة ووفرت كل ما تحتاجه المستشفيات والمراكز الصحية. وقد أسهمت تلك الإجراءات في تطويق المرض ومنع انتشاره كما نراه ونشاهده في الدول المحيطة بنا.
ولأن الأوضاع لا زالت تحت السيطرة بدرجة كبيرة فإن المصلحة تقتضي عدم التضحية بكل تلك الجهود لأجل عادات وسلوكيات اجتماعية غير ضرورية. وحتى لا نرجع مرة أخرى إلى مرحلة الإغلاق الشامل ومنع الخروج وتقييد الحركة فإن الآمال معقودة على الوعي الذي يتمتع به المواطنون والمقيمون لتقدير الظرف الراهن الذي يمر به العالم، والتقيد بالإجراءات المعلنة وعدم استعجال العودة إلى حياتنا الطبيعية خلال مرحلة ما قبل ظهور المرض، ولنجعل تقيدنا والتزامنا بالتعليمات جزءاً من عبادتنا وتقربنا إلى الله في هذا الشهر الفضيل.
وللحقيقة فإن غالبية السعوديين والمقيمين أثبتوا حرصهم وتجاوبهم مع تعليمات وزارة الصحة، والتزموا بتوجيهاتها، لكن هناك فئة قليلة واصلت هوايتها في السير عكس الاتجاه، وأعيد هنا ما سبق أن ذكرته من ضرورة تغليظ العقوبات بحق هؤلاء الذين يخاطرون بحياتهم ويعرضون غيرهم للخطر، واتخاذ الإجراءات الرادعة التي تكف شرورهم وترغمهم على التقيد بالتعليمات، لأن حياتنا وسلامة أبنائنا أعز وأغلى من مغامراتهم الطائشة.