* مفجع ذلك الصباح الذي يحمل إليك خبرا فقد لا يعوض، ومصابا جللا يترك جرحًا لا يندمل، فليس بعد فقد الوالد أو الوالدة فقد، هكذا كان صباح السبت الخامس من رمضان، صباح آثر أن يخرج أعزل من نوره، صباح يعلن ميلاد يتم على كبر، كيف لا والراحل (والدي)، الذي عاش حياته مكافحًا، وعلى ما ابتلي به صابرًا محتسبًا.
* فمنذ ما يزيد على الأربعين عامًا، كان تعايشه مع مرض السكر تعايش الراضي بقضاء الله وقدره، حتى وهو يودع منذ ما يزيد على العشرين عامًا بسببه (حبيبتيه)؛ ليدخل في حياة جديدة بعد حياة الكفاح، وروتين العمل اليومي، الذي يبدأه من المسجد، ويختمه به، ليعود إلى مضجعه بطمأنينة (الساعي على رزقه)، الحريص على الحضور دومًا في سباق الخير حيثما دعا داعيه.
* ورغم قسوة أن تكون أسيرًا لواقع جديد يفرضه فقد البصر، بعد عمر من الحل والترحال في طلب الزرق، إلا أن ذلك الواقع لم يزده- رحمه الله- إلا قربًا من الله جل في علاه، يُحدث بذلك حرصه على صلاة الجماعة في المسجد، حتى مع كونه ضيفا دائما لجميع العيادات، صاحب كم كبير من الأدوية والعلاجات، التي بقدر ما ترمم، فإنها تهدم، حتى وصل به الحال أن يصبح (أكسجينه) يمر عبر جهاز، وكأن عصاه استنجدت بمعين جديد، يعينها على حمل جسد أنهكته الأمراض.
* كل ذلك يحدث لجسد قالت له روحه: أما أنا فسأظل بكامل عافيتي، أرسم على محياك أيها الجسد المنهك أجمل ابتسامة على وجهك المنير بنور الوضوء والصلاة، والقرآن، وأذكار الصباح والمساء، وآخر من يخرج من المسجد، سأظل باقية على عهد يد كريمة، ونفس معطاءة، ورجل شهم يتمثل دومًا (إن يد الله مع الجماعة)، فيعطي في سبيل ذلك عطاء من لا يخشى الفقر.
* رحلت يا والدي، وأبقيت لنا حملًا ثقيلا، والله إنه لثقيل، أقول ذلك ونحن عصبة، وأنت كنت تحمله لوحدك، فكيف لنا أن نبلغ كفاحك، وصبرك، وحكمتك، وسخاءك، ونحن من كنت لهم بعد الله الملجأ والمعين، رحلت وتركت لنا دنيا عزاؤنا فيها أن الجميع شاركنا ألم الفقد، فقالوا، وكتبوا فيك ما خفف من ألم مصابنا في فقدك، وأعظم فقد «من يموت بموته خلق كثير».
* يتحقق ذلك في كل ما لمسناه من تفاعل مع نبأ وفاتك (حضورًا واتصالا ورسائلا وترند تويتر)، الذي يؤكد أن شهود الله في أرضه أظهروا لك دعاء، وثناء على ما قدمت، فسخر من يدعو لك عرفك أو لم يعرفك، فرحمة الله تغشاك، وأحسن عزاءنا، وعزاء كل من أثنى عليك بخير، فجاء ليقول: لم تأخذوا إلا نصيبكم من الحزن وألم الفراق، أقول ذلك وأنا أقف اليوم على ضفاف رحيلك والدي أغالب حزني، ودموعي داعيًا الله لك بالرحمة، والمغفرة وأن يسكنك فسيح جناته، و»إنا لله وإنا إليه راجعون».