الموت ليس ظرفًا جديدًا، قبل كورونا كان، وبعد كورنا سيظل.. وباء كورونا سلط الضوء عليه أكثر ربما، كما تفعل الأوبئة والكوارث عادة.. كورونا أيضًا فرض نفسه على ظروف تلقيه، ومراسمه المختلفة.. لأكثر من عام اختلف الوضع، إعلان موت مقتضب، واحترازات مشددة، ومراسم دفن وعزاء هادئة ومخففة، لا صراخ، ولا حشود.. مجرد حزن هادئ، يليق بسمت الموت.
على الرغم من ذلك، ومع تخفف وضع كورونا قليلًا، يبدو لي أن الوضع يعود لعادته، يعود للوراء.. لا أتحدث طبعًا عن مراسم الدفن والعزاء، بل ما يصاحبها من حالة هياج تصيب بعض الناس ممن يحضرون ويصرون على المشاركة في المراسم، منذ حمل جثة الميت، ثم الصلاة عليها، وحتى وضعها في القبر ودفنها.. أقول هذا من تجربة، بعد أن حضرت حالة دفن مؤخرًا؛ تجربة مريرة بحق، بعد أن تحولت المناسبة إلى حفلة استعراض عضلات شارك فيها حشد من جماعة المتوفى إلا أبناءه.. إلا أبناءه الأقرب له.
هكذا منذ تصل الشرشورة (ما قصة هذه التسمية؟ هل لها علاقة بطائر الشرشور خفيف الحركة؟ ربما) المهم ما أن تصل سيارة نقل الموتى، حتى يبدأ الركض الحثيث تجاهها للمساهمة في حمل الميت (كم مرة كاد الجثمان أن يسقط، وتخيلوا لو حصل ذلك).. لا تفهموني خطأ، أعلم أن الدافع هو طلب الأجر، والشعور بالواجب، لكن هذا كله يجب أن يتم بتحضّر، واحترام، ووقار.. وقار يليق بالمناسبة. (وأي مناسبة أشد وقارًا من الموت..!!). أخشى أن ما يحدث (وقد حدث أمامي) عكس هذا كله، كان مشهدًا قبيحًا من اللغط والصراخ والتوتر الغريب، مشهدًا من الغوغائية الذي غابت فيه اللباقة واعتذر الاحترام عن حضوره. (المشكلة أن الميت رحمه الله كان من أكثر الناس هدوءًا ورفضًا للصراخ والتوتر في حياته..).
تحول مشهد الدفن إلى حفلة لها علاقة بكل شيء إلا الموت؛ استعراض عضلات كاذب، ادعاءٌ مزيّف بالقرب من الميت، وتعالُم (فقهي) أجوف، بل صراع معرفي (جاهل) حول أحكام الدفن وشروطه.. (بعضهم.. ما إن يدلف للمقبرة، حتى ينتشي ويطلق المفتي المكبوت في داخله).
لا أعلم حقيقة لماذا تستحيل المراسم إلى صراخ وحالة هياج عجيبة، وفرصة كبرى للارتجال، واستعراض العضلات، والتوتر؛ وهناك طبعًا التسابق على من يقفز للقبر أولًا. ما أن وصل جثمان الميت في إحدى المرات إلى القبر، حتى وجدوه مسدودًا بشخصين، جهّزا نفسيهما لتسلم الجثمان. لهما علاقة بعيدة بالميت، لكن ابن الميت اعترض، أراد أن يشيّع أباه في لحظاته الأخيرة، وحُقّ له، رفض الشخصان الخروج!! وبدأ الصراخ والتوتر، كادت أن تتحول المسألة لعراك بالأيدي، لولا لطف الله.
هذه المرة أيضًا، حدث الأمر نفسه، قفز للقبر أشخاص غير أبناء الميت.. وكان الصراخ والضجيج نفسه. (اخرج يا فلان.. أنا أعرف، لا لا أنا أعرف.. أنا دفنت أبوي... يا فلان.. افعل.. لا تفعل.. ماذا تفعل....). منظر صادم ومزعج، يجرح العين والقلب، وتشمئز منه النفس.. في اللحظة ذاتها، كان ابن الميت ينظر منزويًا، يتابع الكوميديا السوداء.. بحسرة وأسى.
لا أعتقد أن هناك من يجادل في أن أبناء الميت أولى به في هذه اللحظات، فهي فرصة أخيرة لتوديع حبيبهم كما يرغبون، وهي لحظات -كما يعرف الجميع- ثمينة تظل ذكرياتها محفورة في نفس الإنسان حتى يحين موعده.
وفوق كل ذلك، وأهم من كل ذلك.. لا بد أن نتذكر دائمًا أننا -في هذا الموقف- ضيوفٌ في حضرة الموت، وللموت سطوته؛ يستشعرها من يحضر مراسم الدفن والعزاء. للموت هيبته وحضوره، بعيدًا حتى عن الميت (قريبًا كان أو بعيدًا). هي لحظة تأمل واعتبار.. لحظة انسلاخ من الذات، تجردٍ من كل ما هو دنيوي، من البقاءِ والتشبث بالدنيا، الموتُ لحظة اعتراف كبرى.. واستسلام مطلق؛ لذلك نطلب من كل من يحضر أن يترك الدنيا خلفه (الاستعراضات، التباهي المزيف، الانتصارات الصغيرة، الخ...). أن يترك كل شيء خلفه، ويستسلم.. يستسلم للموت، ويعترف -ولو مرة- بهزيمته أمامه.