يعدُّ التاريخ البشري سلسلة من الهجرات، قامت نتيجة لانتقال الإنسان من منطقة إلى أخرى بغاية الاستقرار، والبحث عن مصادر العيش من ماء وغذاء، فالهجرات الإنسانية لم تتوقف منذ العصور الموغلة في القدم وحتى اليوم، وكانت الهجرات في البداية بسبب تحديات بيئية وجغرافية واجهت الإنسان.
ومع مرور الوقت اختلفت أسباب الهجرات، منها الاقتصادية من تجارة وصناعة والبحث عن مصادر الرزق، فاستقرار التاجر المعيني «زيد إيل» في مصر خلال العصر البطلمي ٣٠١-٣٠ق.م يعطينا دلالة على تبادل تجاري مباشر بين الطرفين، ووجود جالية من جنوب شبه الجزيرة استقرت بمصر، ومنها السياسية كاللجوء السياسي أو ما يسمى في العصور القديمة بالجوار أو الموالي، أو بسبب الحروب، والمناصب المتصلة بالجانب السياسي.. أضف إلى ما سبق الأسباب الاجتماعية من زواج تقليدي أو سياسي؛ حيث أسهم كثيرًا في تبادل الثقافات بين المجتمعات.. ومن أسباب الهجرات أيضًا «الدين»؛ فخروج الملك البابلي نابونيد في القرن ٦ ق.م من بلاد الرافدين إلى شمال غرب شبه الجزيرة العربية «تيماء» واتخاذه لها مقرًا لحكمه مدة ١٠ سنوات ٥٥٢-٥٤٣ق.م؛ إذ كان من ضمن أسباب خروجه رغبته في التفرد والتعبد لمعبود القمر «سين».. وهناك مثال آخر يتصل بوقتنا الحاضر وهو «البورما» في منطقة الحجاز؛ حيث إن من دوافع هجرتهم الاضطهاد الديني الذي واجههم في بلدهم، ففروا من أجل الحفاظ على عقيدتهم وأنفسهم.
إن النقش الهيروغليفي الذي عثر عليه مؤخرًا في تيماء ويحمل توقيع الفرعون المصري رمسيس الثالث يعطينا دلالة على التواصل الحضاري بين شمال غرب شبه الجزيرة العربية ومصر، أضف إلى ذلك النقوش النبطية المنتشرة في صحراء سيناء تبرهن أيضًا على قدم هذا التواصل.. كما أن تنوع لغة النقوش في شبه الجزيرة العربية يوضح بشكل كبير التواصل الحضاري بينها وبين المجتمعات الأخرى منها وإليها. فهذه الأسباب على اختلافها تعدُّ المكون الرئيس لبناء الحضارات، ونتيجة لذلك تكونت خبرات مختلفة لدى الإنسان على اختلاف العصور التاريخية، وانعكست عليه بالإيجاب وأدت إلى تطوير أنظمته المختلفة، وهذه الهجرات أيضًا أدت إلى تنوع حضاري ثقافي وتواصل بين المجتمعات، ومع مرور الوقت أصبح لكل حضارة خصائصها وميزاتها.
واليوم نجد أن هذه الهجرات أصبح لها قوانين وشروط وضوابط نظمتها، وحددت الدول أعداد المهاجرين وقننتها.. فالهجرات الإنسانية أثرت إيجابًا في تكوين الحضارات وتبادل الثقافات في العصور القديمة، فهل هي اليوم تؤدي الدور ذاته؟