ذكرت في مقال سابق أن إحدى
القارئات سألتني عن علاقتي بالقراءة.. فقررت أن تكون الإجابة كبسولات مختصرة على شكل يوميات.. تأتي على حلقات.. بمعنى آخر سأجيب عن القراءة وأحوالها كلما تيسرت الإجابة.. وأجوبة القراءة -كما تعلمون- مثل أسئلتها لا تنتهي.. لذلك هاكم « الحلقة الثامنة « من اليوميات:
الأحد: القراءة هي وسيلة إبعادٍ وتقريب لنا، وهي قادرة على لعب الدورين في وقت واحد، فهي تُبعدنا عن التفاهات، وتقرِّبنا من فهم الواقع، ولقد انتبه إلى هذه النقطة الفيلسوف دانيال بناك حين قال: (المفارقة التي تتميز بها القراءة تكمن بمقدرتها على إبعادنا عن العالم حتى نتمكن من فهم معنى ما يدور من حولنا).
الاثنين: لو حاولنا تعريف الجامعة أو أكبر الجامعات فلن نتجاوز تعريف الفيلسوف توماس كارلايل حين قال: (أكبر الجامعات على الإطلاق هي عبارة عن مجموعة من الكتب).
الثلاثاء: القراءة فنٌّ لا يقدِّره إلا من يستمتعون به، فمثلاً تجد كاره القراءة مثل الطالب الذي يقرأ كتاباً دراسياً يتذمّر ويتململ طوال وقت القراءة.. أما عاشق القراءة، فإنه يحاول أن يستمتع بآخر حرف من الكتاب، ثم يقلِّب الكتاب بحثاً عن صفحات ليست موجودة، لذا تراه يعيد القراءة مرة تلو الأخرى، وفي كلِّ مرة تزداد دهشته، وكأنه يقرأ الكتاب للمرة الأولى، وهذا القارئ الجاد ربما كان يقصده الملك ستيفين حين قال: (الكتب الجيّدة لا تسلّم جميع أسرارها مرةً واحدة).
الأربعاء: متعة القراءة من أهمّ الأسباب التي تدفع عشّاق الكتب للتمسُّك بالحياة، وقد أحزنني ذلك القارئ العظيم حين قال: (أكثر ما يحزنني هو أنني سأموت وأنا أعلم يقيناً بأنني لن أتمكن من قراءة الكتب التي ستصدر بعد موتي).. لكن لماذا كلُّ هذا الجشع «القرائي»، خاصة وأن الأديبة سميحة خريس تبشِّرنا بأن (الدنيا ما زالت تكتظ بمليارات الكتب البديعة التي لم تصافح عيوننا، وهي قادرة على إدهاشنا بما تملكه من أسرار لم تخطر في بالنا)؟.
الخميس: مخطئ من يعتقد أن القراءة الحقيقية لا تحتاج سوى التحديق في الحروف والكلمات، لأن القراءة تحتاج إلى جهد جماعي ليس من جميع الحواسّ فقط، بل تشارك في جميع خلايا الجسم، والدليل أن المجهود الذهني أثناء القراءة يسبب الجوع وكأنها رياضة شاقة.. وإذا عدنا إلى الحواسّ لا يمكننا أن نغفل دور القراءة في تنمية مهارة الإنصات وتمرين الأعصاب على الهدوء والاسترخاء، وإذا لم تصدِّقوني فاسألوا القارئ المخضرم الأديب أنيس منصور، وسيقول لكم: (علمتني القراءة الطويلة المتأنية أدب الاستماع، فالقارئ لا يتكلم وإنما يستمع طويلًا وعميقًا إلى الذي يقرأه).
الجمعة: ليس من المجاز أن نشبِّه العقل البشري بالنباتات التي تذبل في مواسم الجفاف، وكما أن النباتات تنمو بالماء فإن العقل أيضاً ينمو بماء من نوع آخر وهو القراءة لأنها توسِّع المدارك وتفتح آفاق التفكير والتأمُّل، وهذه ليست فذلكة من عندي، بل هي حقيقة علمية، وقد سعدتُ كثيراً حين وجدتُ من يؤيد رأيي وهو الأستاذ فهد الحمود، حيث يقول: (إن العبقريّة إذا لم تجد غذاء القراءة فإنها تجف وتذبل، لأن الذكاء إذا لم يلازمه الاطلاع يتحول إلى هباء).
السبت: من الحماقة أن نستسلم لخديعة تراثية تدحرجت علينا منذ مئات السنين، مفادها أنه «ما ترك الأول للآخِر شيئاً»، والدليل أنه حين قال الفيلسوف ويل روجرز: (يتعلم الإنسان بطريقتين: القراءة ومصاحبة من هم أذكى منه)، «جحفله» زميله الفيلسوف أحمد العرفج بقول -كأنه «قول» قاتل في الدقيقة الـ90- قائلاً: (يتعلّم الإنسان بطريقة واحدة وهي قراءة كتب مَن هُمْ أذكى منه.. وربما يصبح يوماً ما عبقرياً).