حفل التاريخ البشري بالعديد من الكلمات الزاخرة، أطلقتها بعض الحناجر الذهبية بقيت جذورها حافرًا في الذاكرة، خلدت لأصحابها ذكرً لا تنقطع لاحتوائها على منطق راقي، وعمق إنساني، وبعد فكري جميل.
قال أهل البلاغة قديمًا: لكل مقام مقال، فقد عُرف عن العرب أنهم أهل اعتداد بكلمتهم وهي تعنى ميثاق الشرف لهم.
أُرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلغة واضحة وبلاغة في الكلمة للوصول إلى عقول وقلوب الناس فكان هذا سر نجاح دعوته التي كانت تمتلك سحر وفصاحة البيان، ولأهمية الكلمة وتأثيرها جاء ذكرها صريحة في كتاب الله في قوله تعالى "مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء" وكذلك بالنسبة للكلمة الخبيثة فقد وصفها الله تعالى "كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار".
يُحدث مرور بعض العابرين في طريقنا حالة من الفرح والطاقة الإيجابية كنسيم الربيع، يرسمون الابتسامة على شفاهنا الغائرة بالعبرات، وقلوبنا المتراكمة بآلاف الحسرات، ثم يمضوا في طريقهم تاركين خلفهم ذكريات جميلة لا يمحوها غبار الزمن.
إنها ليست مجرد حروف صماء نكتبها أو أصوات نطلقها، بل هي قصة حياة تُترجم لدى مستقبِلِها إلى إشارات سلبية أو إيجابية.
الكلمات؛ هي من تحدد هوية الإنسان وفكره، فلا ينكر عاقل أهمية الكلمة وقدرتها الفتاكة على قلب موازين القوى لصالح الطرف الآخر، وهي وسيلة مهمة من وسائل تحفيز الجند وبث روح الحماسة فيهم في حالة الحرب، وكذلك في استمالة أصوات الناخبين والتأثير على آرائهم، وللكلمة قدرة عجيبة على تغيير فكر بعض المتطرفين والتائهين في بحر الظلمات.
يمر على مسامعنا العديد من العِبارات اللطيفة التي بقي أثرها عالقًا في أذهاننا فترة طويلة من الزمن، لِما حملت تلك العِبارات من شفافية وخفّة وبهاء، خطفت ألباب عقولنا وانتشلتنا من بؤسنا، وسراديب أحزاننا وغياهب الألم في صدورنا إلى رحب الفضاء العذب.
وعلى النقيض من ذلك تتساقط من أفواه البعض رصاصات طائشة تُردي قلوبنا في مهاوي الهلكة، يلفظها خبثاء المنطق لمآرب في أنفسهم، تفقدنا الأمل وتملأنا بالخيبة والبؤس، فنصبح معها غير قادرين على مواجهة الحياة، عندها نكون قد فقدنا ثقتنا بأنفسنا ليس لدنيا القوة والصبر لتخطي تأثيرها على حياتنا.
تلك الكلمات الجارحة التي تخرج من بعض الحمقى تجري مجرى السُم في عروقنا وتترك في أرواحنا جروحًا غائرة لا تندمل، تجبرنا على الاختفاء وراء أقنعة ملونة زائفة لا تفصح عن حقيقتنا حتى لا يرى الآخرون ما تحتها من ندوب تركت على وجوهنا أثرها من الحزن!!.
للكلمة قوة هائلة يمكنها أن تدمر الإنسان من الداخل، أو تصنع منه شخصاً قوياً واثق بنفسه، فهي سلاح ذو حدين ووسيلة تواصل راقية بين البشر إما أن تدمره وتمحي ثقته بنفسه وتجعل منه إنساناً هشاً لا يثق بنفسه ولا بالآخرين، أو قد تبني علاقات جيدة لها اثرها الجميل في القلوب.
وصل صوت سقراط إلى الكثير من الشعوب وعزف على أوتار الحضارة الإنسانية ولفت الأنظار إليه من المشرق إلى المغرب، كلاً أعجبه عزفه وكلاً أثار في النفس حرفه.. إلا أقرب الناس إليه زوجته فقد كانت تحقره وتزدريه وتوبخه وتؤذيه، مات سقراط ولم يمت الأثر وماتت الزوجة فلم يذكر لها أثر.. إذًا الناجحون الواثقون من خطواتهم لن تؤثر عليهم مثل تلك الكلمات القاسية ولن تقف في طريق نجاحاتهم، لكن المشكلة تكمن هنا في بعض النفوس الضعيفة والتي ربما تحبط أفكارهم وتتأثر مشاعرهم فيغزو الهم قلوبهم ويسكن أرواحهم بسبب فظاعة تلك الكلمات.
هل فكر هؤلاء المتخاذلون المحبطون في مشاعر غيرهم قبل أن يطلقوا سهام كلماتهم الجارحة وشعروا بمدى قساوتها وتأثيرها على الطرف الآخر؟!
الجميع يدرك أهمية الكلمة وتأثيرها على الرأي العام، لذلك يجب علينا أن نقدر كلماتنا قبل أن نخرجها من أفواهنا فهي سهاماً نافذة إذا خرجت لن تعود.
ولعل ما فعلته الكلمة بـ(شربل وهبة) وزير خارجية لبنان سابقًا، غير المأسوف عليه بعد أن عبث بمفرداتها، ما هو إلا دليل واضح على خطورتها ومدى قدرتها في التأثير على الآخرين، لذلك كان من الأحرى انتقاء تلك المفردات بدقة قبل إطلاقها جزافًا، ودفع الثمن المُر نتيجة لتلك الكلمات الرعناء.
أيها السادة... هناك فرصة واحدة تمنحنا إياها الحياة لنفعل الأفضل، مرة واحدة فقط ليترك كل واحد منا أثرًا في الآخر.
* همسة:
تذكروا أن بعض الكلمات سهام قاتلة فرفقًا بقلوب من تحدثون.. ارحلوا بأناقة واتركوا بعد رحيلكم إرثًا حافلًا بكلمات، ومواقف، وصور مشرفة، تبقى في رصيد أيامكم.