كانت أنموذجًا للمرأة في منطقة الحجاز، وفي مكة المكرمة، حيث عاشت وامتدت جذورها ضاربة في عمق التاريخ العبق بالسلالة الشريفة، مكة المكرمة عشقها ومستقرها الأبدي. الشريفة فاطمة عقيل تمثل نبض الحب والطيبة والكرم، شخصية فريدة في ثقافتها، ابتسامتها، محبتها، لطافتها، حب العطاء الصامت في خدمة المجتمع وإعانة المحتاج، من يدخل دارها لا يخرج خاوي الوفاض، بل محمل مضمخ بالفرح وحسن الاستقبال، وحيوية اللقاء، وما تجود به تلك النفس الجميلة من هدايا أو عطايا أو إعانات لمن وفد ومظهره ينبئ عن حاله، دون طلب أو إفصاح. أمي فاطمة كما تحب أن نناديها، وتناديها معظم النساء اللاتي حظين برؤيتها وقربها، فارقت دنيانا إلى جنات الخلد، الأربعاء الماضي، هي وشقيقتها الشريفة رحمة عقيل -حفظها الله-، توأم روحها، منحتا حياتهما ومالهما وكل ما تملكان لخدمة الآخرين، كانت دارهما ملتقى يومي تقريبًا لكثيرات من مكة وجدة والطائف ووادي فاطمة محضن أعمالهما الخيرية. لم يكن ملتقى تجتمع فيه النساء للفضفضة أو القيل والقال، بل تتوهج فيه الشريفة فاطمة بحديثها وقصص التراث بما تحويه من أبيات شعرية محفوظة عن ظهر قلب، ومدائح نبوية، حتى أن مجلسها لا يكاد يخلو يومًا من جلاس يحرضهم الشوق لحديثها وابتسامتها التي لا تزال عالقة في نفوسنا وقلوبنا منذ جاءنا خبر الرحيل المؤلم رغم أن الموت حق إلا أن هيئتها وهيبتها لازالتا حاضرتين وكأن روحها لم تغادر المكان. وجع الرحيل، ودموع الحزن، أصابا كل من عرفها، من غير أهلها، كيف إذن كان حال أهلها؟ كانت تغدق على الجميع محبتها واهتمامها حتى يظن كل من عرفها أنه الأقرب إلى قلبها، هي تلك الراحلة الغالية امرأة استثنائية، فهي تجمع بين التدين والثقافة المبهرة لمن يحضر مجلسها، رغم عمرها الذي تجاوز ثمانية عقود، لكن روحها الشابة، وقلبها المفعم ببراءة الطفولة، جعلا مجلسها اليومي مكتظا بسيدات من كل الفئات العمرية والعلمية، ربات البيوت، والأكاديميات، وحفظة كتاب الله، لأنها وشقيقتها الشريفة رحمة استثمرتا أموالهما وجهودهما في إنشاء مدارس لتحفيظ القرآن في وادي فاطمة، ومستوصف صحي، قامتا ببنائه من مالهما على مساحة أرض كبيرة جدًا، ثم تنازلتا عنه لوزارة الصحة منذ سنوات طويلة مقابل تشغيله من الوزارة لخدمة سكان الوادي لافتقاد القرى لمستوصف حكومي، سوى مستوصف واحد فقط في محافظة الجموم، وآخر أهلي لا يتمكن معظم سكان القرى من دفع رسوم علاجه، لكن -للأسف- ولأسباب غير واضحة، قامت وزارة الصحة بإغلاقه، وظلت رحمة الله عليها وشقيقتها الشريفة رحمة، تتحسران على حرمان سكان القرى من الخدمات الطبية التي كان يقدمها المستوصف لمرضى السكر والحوامل والرضع، وللمرضى الذين كانوا يفدون إليه من القرى المجاورة. أمي فاطمة، أصبح المكان فارغًا من جلستك المهيبة، لكن روحك لازالت تحتل المكان وتحتل قلوبنا! أمي رحمة أعانك الله على فراق توأم روحك، رفيقة دربك، شقيقتك وحبيبتك وصديقتك، التي دائمة الحديث عن جهودك في تنمية قرى وادي فاطمة بفخر واعتزاز، أحيانًا ألمح في حديثها إشفاق الحب لجهدك المبذول لكنه ممزوج بالفرح لأنه جهد الخير الذي يغدق دون انتظار مردود إلا الأجر والثواب من رب العالمين. لن تفرغ ذاكرتنا من ملامح الطيبة، وبشاشة الاستقبال، والاقبال على ضيوفك ومحبيك بالاحتواء الأمومي، لا نملك غير الدعاء بأن يتغمدك الله بواسع رحمته ويملأ قبرك رحمة ونورًا ويؤنس وحشتك بأعمالك الصالحة، وينزل الصبر والسلوان على قلب أهلك وأحبتك، ويملأ الله قلب أمي رحمة صبرًا على فراقك، لأن رحيلك كان موجعًا لمن عرفك فكيف لمن كانت معك حتى آخر لحظات حياتك! عظم الله أجركم آل عقيل وألهمكم الله الصبر والسلوان و»إنا لله وإنا إليه راجعون».