يختتم اليوم ملتقى الرواية العربية الذي ينظمه نادي الباحة الأدبي -هذ العام- تحت عنوان (الرواية العربية من 2000 - 2020 ملامح وآفاق) جلساته بعد أن شارك فيه حشد من النقاد والباحثين من داخل المملكة وخارجها (عربياً وعالمياً).. اختتم الملتقى جلساته، لكن الثراء الذي يبثه هذا الملتقى لا ينتهي، إذ يستمر أثره ممتداً، بعد أن أصبح علامة بارزة للسرديات في الثقافة العربية، منذ أعلن النادي تنظيمه للمرة الأولى عام 2007. سيستمر النقاش والجدل كالعادة، ويتوعد الباحثون بعضهم بعضاً بمزيد من البحث والحفر المعرفي، والتعمّق في قضايا الرواية التي لا حصر لها، بل تزداد عمقاً مع تقاطع المحكيات المتخيلة مع محكيات الحياة الواقعية.. هذا يعني أن الملتقى ينتظم الآن ليشكّل سردية موازية لسردية الواقع المعاش، بما إن الرواية منجز أدبي مهم يرصد تطورات الوضع العربي في مختلف مجالاته. أكثر من خمسين بحثاً، وعشرات المشاركات، والحوارات الساخنة والودية حملها أثير الفضاء، واتجه بها نحو باحة السرد، وتحمّلها بكل حب شاعر الغيم حسن الزهراني، رئيس أدبي الباحة، مع مجوعة من زملائه في لجان التنظيم، ليعلن الملتقى نفسه تظاهرة لا تقل عن ماضي التظاهرات تألقاً ونجاحاً. وكرّمنا جميعاً أميمةَ الخميس، روائيتنا الرائعة المثابرة، بعد أن أثبتت تجربتها أصالة تليق بالنظر، وطورت صوتاً يشير إليها، ويميّزها، ويجعل الدراسات والملتقيات والجوائز تبحث عن إنتاجها، تحليلاً وتكريماً.. وهي تثبت أن المرأة السعودية قادرة دوماً على الإنجاز والنجاح والمنافسة، بعد أن استطاعت أن تقاوم و»تتجاوز كل العوائق والحواجز وتصبح أكثر إيماناً بموهبتها ورسالتها الأدبية كفكرة وغاية وهدف»، كما عبّرت أميمة في حوار من حواراتها. وعلى الرغم من كل هذا الحضور والنجاح، إلا أن إقامة الملتقى افتراضياً، بسبب ظروف كورونا بطبيعة الحال كانت مثاراً للأسف وشيء من الحسرة؛ فهذه الباحة، وحسن الباحة لا يعترف بافتراضية الحضور، ولعل الله يجمعنا في الملتقى المقبل على أرض باحة الجمال.. ويبدو أن كثيراً من الزملاء والزميلات يتفقون معي، بعد أن حضرنا، وشاركنا خلال هذا العام، في كم هائل من الملتقيات، والندوات، والمحاضرات أن الحضور الفعلي لا يوازيه شيء، ولا يغني عنه بديل.. لقد افتقدنا دفء الحضور، وبهجة اللقاء، وحماس السجالات التي كانت تعج بها قاعات الفنادق وأبهاؤها.. لقد افتقدنا لحظات التعارف الشخصي، والأحاديث الجانبية، ومماحكات الأصدقاء والصديقات، التي ينتج عنها عادة ضحك وذكريات. تناولت في مداخلتي «الذاكرة» والأسئلة والقضايا المتعلقة بها، كما تطرحها صفحات رواية (الاعترافات) لربيع جابر، في محاولة لاستخلاص نظام العلاقات الذي يضع «الذاكرة» -بوصفها مصنعاً لإعادة تدوير الحكايات- تحت المساءلة والنظر.. يمثّل سؤال الذاكرة أحد الاسئلة المركزية في السرد، وذلك لأن السرد يعتمد على الذاكرة اعتماداً كبيراً، في عملية استعادة المحكيات، وبنائها من جديد.. وحين ننظر للعمل السردي بوصفه عملاً أدبياً تخييلياً، تصبح الذاكرة أداة بنيوية مهمة في السرد؛ فتسهم في بناء الأحداث، وتحديد وظائف الشخصيات، وتتحكم في تطور السرد، كما تسهم كذلك في تبئير الحكي.. وتتجه بعض الروايات إلى معالجة موضوع الذاكرة، وتحويلها لبعد موضوعي يتجه نحوه السرد؛ يحاوره ويسائله، ويوظفه عنصراً بنائياً داخلياً.. ورواية (الاعترافات) لربيع جابر مثال جيد في هذا السياق. ولو كان الأمر لي، لخصصت للذاكرة ملتقى خاصاً، أو جعلتها محوراً من المحاور الرئيسة على الأقل، ولناقشنا -من يدري- ضمن ما ناقشنا، ذكريات هذا الملتقى الجميل، وحفرنا في ذاكرته الافتراضية أعمق.. مرحى لأدبي الباحة، ولملتقى الرواية.. كل هذا الثراء.