Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

جينالوجيا النقض: فرصة جديدة لتفكيك فلسفة شحاتة

A A
نعرف أن السؤال حول فلسفة حمزة شحاتة لا يزال مفتوحاً حتى الآن، من هنا اقتنصت الفرصة لإلقاء الضوء على هذه القضية هذا الأسبوع في محاضرة بعنوان (جينالوجيا النقض: بين نيتشه وحمزة شحاتة)، نظمتها جمعية الفلسفة واستضافها مركز سيدانة الثقافي.

أتذكر هنا سؤالاً من صديق الصحافة والثقافة محمد باوزير حول نبوءات شحاتة بمستقبل زاهر، نبوءات استحالت أحرفاً من غضب؛ فهل خسر حمزة شحاتة الرهان؟ وهذا سؤال صعب كما نعلم جمعياً حتى لشخص اعتكف لسنين في محراب شحاتة.. ورغم أني أتفق في اختلاف ألوان الرؤى في حياة شحاتة، إلا أني أحب أن أشير إلى أن أدب شحاتة لم يحمل ذلك النـَفـَس الحالم الذي يؤثث المستقبل بالتطلعات الوردية.. كان شحاتة متوازناً، أقرب إلى فيلسوف، يعيش لحظته على طريقته.. ويفهم الأشياء من حوله بطريقته.. أنا أعتقد أن طريقته هذه في فهم الأشياء، كانت العامل الرئيس خلف انتكاسته واختياره الانسحاب.. لم يملأ حمزة مستقبله بالنبوءات، لكنه فهم واقعه وعايشه لزمن.. من يتعمق في أدبه يدرك أنه مع مرور الوقت كان حمزة يفهم الحياة أكثر مما يجب، وهنا تكمن فضيلة شحاتة، وربما لعنته كذلك.. من هنا أرى ألا تعارض في أطروحات شحاتة بين التشاؤم والانضباط الذي اعتمده أسلوب حياة؛ فالتشاؤم نزعة نفسية، بينما الانضباط سلوك.

صحيح أن السلوك يترجم بعض نزعات الإنسان الداخلية، لكننا نشير إلى سعي شحاتة للمثالية في كل شيء، وقد كان (مثالوياً) صادقاً، يطبق مبادئه على نفسه أولاً وبحزم مذهل أحياناً.. من هنا كان اصطدامه بالواقع المرير، الذي يدعوه للتنازل والتحايل وإعادة صياغة بعض القيم لتناسب الحاضر، وهو ما جعله يراجع نفسه ويقرعها بالأسئلة.. ولعل هذا ما دفعه لخيار العزلة والابتعاد، والثبات على قيمه التي آمن بها.. هنا أشير إلى النموذج الذي يصيغه شحاتة للمثقف الصادق الثابت على قيمه مهما تغيرت الظروف، وليت الكثير من مثقفي هذا الزمن يتعلمون.. ولعل هذا ما يجعل كتاب (رفات عقل) خلاصة فلسفته؛ فهو يشبه كثيراً القهوة المرة السوداء؛ تحتاج أن تفهم أن سرها في مرارتها وسوادها الحالك.. حين تقترف إثم إضافة السكر عليها، فهي تتمرد عليك.. وتفقد طبيعتها، هكذا هو (رفات عقل)، وهكذا يجب أن نفهم تغريداته السوداء.. المرة!

لا بد أن نتذكر دوماً أن رفاق شحاتة شهدوا له بالتميز والسبق في ميدان الثقافة، وهم -كما نعلم- ثلة من عمالقة الثقافة والأدب.. لكنهم حينما يصفونه يتحدثون عن شخص سبقهم جميعاً.. عزيز ضياء -مثلاً- تحدث عن هذا الجانب في كتابه (قمة عُرفت ولم تكتشف).. وفي الكتاب عملت جاهداً على استكشاف هذا الجانب، وهو ما كان في الفصل المعنون بـ(هكذا تكلم شحاتة).. المدقق في مقولات شحاتة الفلسفية يجده يتقاطع في رؤيته للفن والأخلاق والحقيقة مع فلاسفة أمثال هيجل، كانت، وبيكون.. لكن الدراسة أثبتت بشيء من التفصيل تلاقيه مع نيتشه خصوصاً، ليس على مستوى الرؤية وحسب، بل على مستوى المنهج أيضاً.. موقفه من القوة مثلاً يتسق مع فلسفة نيتشه في إرادة القوة تقريباً، وكذلك محاضرته التي تذكر بصورة أو بأخرى يجينالوجيا الأخلاق النيتشويه (تشير الجينالوجيا إلى شجرة النسب وعلم النِّسابة، الذي يهتم بتتبع أصول وأنساب العائلات والظواهر والمصطلحات ونقدها) وهو ما يجعل تأثر شحاتة بنيتشه أمراً وارداً.

ما أقترحه هنا هو قراءة جديدة لحمزة شحاتة، تنطلق هذه المرة، من نقطة تجاوزه للواقع، للمجتمع، لقيود المكان واللحظة، هذا التجاوز الذي خوّله لرؤية الـ»ما بعد»، أقترح قراءة تتجاوز فهم شحاتة وفقاً لقيم الحداثة إلى ما بعدها.. قراءةً تنظر للرفض والنقض، والإحساس بالتلاشي، وقلق التشظي الذي كان يهرع العالم مسرعاً تجاهه، قراءةً تتفهم القنوطَ، والعزلة، وطرقات المطرقة التي صبغت أعمال شحاتة.. وإذا كانت كل هذه الأمور من إرهاصات الانعتاق نحو زمن التقويض، فإن الدراسة المتعمّقة والمنهجية يمكن أن تقود نحو وضع شحاتة في سياق جديد (بالإمكان -مثلاً- موضعة مشروع عواد التبشيري بالنهضة والتنمية ضمن سياق الحداثة)، وهنا يكمن تميّز شحاتة، في قفزته نحو مرحلة جديدة.. (أو لأكون أكثر موضوعية، في محاولته القفز نحو مرحلة جديدة متجاوزة).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store