بيّنتُ في الحلقتيْن السابقتيْن خصائص النمو النفسي والاجتماعي لدى طفل المرحلة الابتدائية، وسأتحدّث في هذه الحلقة عن خصائص النمو العقلي لطفل المرحلة الابتدائية في أوائل هذه المرحلة أيضًا (في سن السابعة تقريبًا) يلاحظ المنهج المدرسي أنّ الأطفال، وإن كانوا سيظهرون قدرة أكبر على فهم ما يتعلمونه إلاَّ أنَّ تفكيرهم يجب أن يوجه إلى الواقع الملموس: فتكون المادة الدراسية متصلة تمامًا بمظاهر الحياة في بيئة الطفل، أو تكون مختارة منها، أو ممَّا يستطيع الطفل إنتاجه، أو القيام به بشكل تقريبي، ويبتعد المنهج في هذا عن التفكير المجرد، ويكون معظم المنهج نشاطاً عمليًا يمارس في حرية موجهة تحت إشراف دقيق، ولا يدرس الطفل التفاصيل أو الجزئيات، يوجه إلى الربط بين ما يقوم به من الألوان والنشاط والدراسة؛ بحيث يتعرف على ما بينها من علاقات بارزة ملموسة ليزيد هذا من فهمه، ويساعد على نموه العقلي المنشود.
[د.عبد اللطيف فؤاد إبراهيم، مرجع سابق ،ص 157]
كما على المنهج المدرسي ألاَّ يهمل بذور النقد الذاتي التي تظهر بين السابعة والثامنة من العمر، بل يستغلها أيضاً في توجيه الأطفال توجيهاً ينظم هذه الحياة عندهم ويجعلهم يدركون مواضع القوة، ومواضع الضعف فيما يقومون به، ويعلمهم كيف يحافظون على القوة، وكيف يعالجون الضعف أو يتداركونه، على أن يؤدي كل هذا إلى إشباع رغبة كل منهم في تحسين عمله، ومن حوالي الثامنة من العمر، يوجه الطفل تدريجياً في دراسة مشاهد الطبيعة، (أو مبادئ العلوم)، وفي الأشغال اليدوية توجيهًا يساعده على فهم ما يستطيع فهمه من تركيب الأشياء وصنعها، وعملها وحركتها، وفائدتها، وفي زيادة التعرف على البيئة المحلية في هذه السن، يستغل المنهج المدرسي ميل الطفل إلى الجمع فيشجعه على جمع ما يستطيع جمعه من بيئته المحلية، ويتيح له فرصًا للاشتراك مع زملائه في تنظيم ما جمعوه في متحف صغير في جانب من غرفة الدراسة، أو في غرفة خاصة بالمدرسة كي يستغل في التدريس، يستخدم في كثير من الفهم والتفكير الصحيح تحت إشراف المدرس.
وفي سن التاسعة تقريبًا، يُعنى المنهج المدرسي بأن تظل المشاهدات والملاحظات الشخصية، أو الاتصال بالواقع كأساس هام من الأسس التي تبنى عليها مواد التربية الاجتماعية والحساب ومبادئ العلوم، والرسم والتعبير، وبعد سن التاسعة، يتدرب الأطفال على عدم التسرع في الحكم والتعميم، ونهيئ الفرص التي توضح لهم عمليًا، أن أي حكم من أحكامهم يمكن أن يعدل بعد أن تتجمع عندهم معلومات أكثر تساعدهم على فهم أدق، ويعنى المنهج المدرسي بتوجيه الأطفال إلى تنظيم نقد أعمالهم وفق أساليب مبسطة جداً تتمشى مع منطقهم، وتهدف في النهاية إلى تحسين هذه الأعمال، وتنمية مهارات كثيرة مرغوب فيها، ويستمر هكذا نشاط الطفل العملي إلى أواخر هذه المرحلة من العمر، ويربط بما لدى الطفل من حب استطلاع. وفيما بين سن التاسعة والحادية عشرة تلاحظ أن مشاهدات الطفل الموجهة في البيئة المحلية، ثُمَّ دراسة هذه البيئة دراسة مبسطة تماماً، ثُمَّ جغرافية بلده، فجغرافية الوطن العربي الكبير، تكون مجالاً لإشباع حب الاستطلاع في الأعمال، أو الحرف التي يلاحظها، ويتصل بها، وبآثارها في أثناء تعامله مع أهل البيئة المحلية التي يعيش فيها.
وعلى المنهج المدرسي أن يقلل من الوصف والتعاريف لأنَّها كما عرفنا لا يكون لها قيمة كبيرة عند الطفل في هذه السن، ويزداد تشجيع الطفل على الابتكار في نشاطه، وتتاح له الفرص التي تساعده على هذا. ويلاحظ المنهج المدرسي أنَّ عناية الطفل بجمع الحقائق، التي تتضح فيما بين التاسعة والحادية عشرة أيضًا، يمكن أن تستغل في المواد الدراسية المختلفة، وفي دراسة ما يجمعه الأطفال للمتحف المدرسي، وفي الزيارات والجولات والرحلات، وفي دعوة بعض المختصين من أهل البيئة للتحدث مع الأطفال حديثًا مبسطًا تحت إشراف المدرس، وفي القراءة المعدة إعدادًا خاصًا لهؤلاء الأطفال، وفي الاستماع إلى إذاعة مدرسية ومناقشتها تحت إشراف المدرس، ويشجع الطفل على التعبير عن خبراته، ومعلوماته وأفكاره، ويرشد في ذلك ليتدرب على العبارات المبسطة الواضحة.
وقدرة الطفل على التذكر المبني على الفهم التي تتضح أيضًا بعد سن التاسعة، تستغل في دراسة المواد الدراسية، كما تستغل في ممارسة التعليل الذي يبنى معظمه على الحس، ويتضح فيما بين سن الحادية عشرة والثانية عشرة.
وفيما بين سن 11-12 أيضًا، تزيد عناية المنهج المدرسي بتوجيه الأطفال إلى القيام بالربط، وعمل موازنات مناسبة بين الظواهر المختلفة، ويتيح المنهج المدرسي فرصًا لإثارة مشكلات واضحة ملموسة تهم الأطفال، وتتصل بحياتهم، وتجعلهم يقومون بمعالجتها تحت إشراف مدرسهم، وتكون المعالجة في مستواهم، وتضع أذهانهم بذور الأسلوب العلمي في التفكير، وفي كل هذا يبتعد المنهج المدرسي عن الأمور المجردة تجريداً تامًا. [المرجع السابق : ص 159].