الوضع في أفغانستان غريب، وعصي على الفهم ربما، ليس من الناحية السياسية فقط، أعترف أني لا أفهم الأفغان؛ وضعهم السياسي معقد، والفوضى سيدة المكان.. أنا أكتب هذا المقال بالأمس، لا أعلم ما الذي تغيّر اليوم.. كذلك الأفغاني؛ يعيش في الأمس، غده مسجون في أمسه، ولا يعلم ماذا تغيّر غداً.. المشكلة أن الأفغانيين لا يبدون مهتمين كثيراً، وهذا هو المحيّر.
لا أحد يدري ماذا يريد الشعب الأفغاني حقيقة؛ نعتقد أن الإنسان الطبيعي اليوم يتمنى حياة كريمة مرتبطة بالحاضر ومستجداته (يتمنى بيئة نظيفة، ومهنة جيدة، تمكنه من بناء عائلة، وتساعده على تربية وتعليم أبنائه كما يجب)، نميل إلى أن الأفغانيين كذلك، لا يختلفون عن بقية البشر.. لكن ما نراه يبعث على الحيرة.. هناك هشاشة واضحة، حينما نربط أفغانستان بكل ما يمثّل الحضارة الحديثة.. هذه الهشاشة تصطدم بصورة الأفغاني القوي الذي لا يقهر.. (روبرت لايسي ذكر أن المجاهد الأفغاني كان يتلقى قذيفة تقتطع جزءاً من جسده، ولا يكاد يصدر صوتاً، بل إن بعضهم -وهو في حالته تلك- كان يشمئز -صامتاً- من عويل المجاهد العربي الذي تلقى رصاصة بجواره).. المفارقة هنا أن نصف مليون جندي، ومعهم ضعفهم من أهل كابل، لم يرفعوا علمَ احتجاج أمام مقاتلي طالبان.. ما الذي دفع إنساناً أن يتسلق طائرة محلّقة ليسقط في الهواء مثل حجر بركاني؟! شيء لم نعتقد أنه يحدث.. إلا في هوليوود.
صورة طالبان ملعوب فيها لدينا؛ أوافق على هذا.. هذه الصورة شكلتها أحداث التاريخ الحديث وإعلامه بلا شك؛ مثل قبرص، لكنْ بصورة مختلفة، تحولت أفغانستان لمنطقة تناحر بين القوى.. لكنّ طالبان في كل الأحوال ليست كائناً ينتمي لهذا الزمن.. اسألوا التاريخ وعلم الاجتماع، سيخبرانكم بذلك.. اسألوا الأدب، واستمعوا لروايات خالد الحسيني.. وجد أسامة بن لادن -بكل ما احتواه من ظلام- في شمس أفغانستان ضالته، فدخلوا معه حرباً ضد العالم، لسنين كان الأفغاني لا يعرف من هو خصمه، لكنه يعرف أنه يحمي بن لادن.. هل هذا معقول؟!
وهكذا.. بعد أن توّج التاريخُ الأفغانيَّ بطلاً يدافع عن وطنه، ويضرب أسمى الأمثلة في مواجهة العدوان الشيوعي.. جاء بعد عقدين ليحيله إلى عدو العالم الأول؛ وقرر بوش الابن الطائش تسيير الجيوش.. هناك من يمعن في لوم أمريكا؛ قد تكون رسالتها في المنطقة قد فشلت، لكن بن لادن كان يصور أشرطته من أفغانستان وهو يقتل ويفجّر في غرب الأرض وشرقها.. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.. بن لادن ميت اليوم، ومعه ماتت إجابات كثيرة، وأسئلة أكثر، لكنه -وهو يفجع العالم ببرجي التجارة- كان أفغانياً بحتاً.
ذكرتني (بحتاً) هذه بشابٍ أفغاني يصوّر مقاطع سنابشات من قلب كابول هذه الأيام، له لهجة حجازية جميلة ومؤلمة، يشوبها بعض الكسور.. وسيم، وظريف، ويضحك.. يصوّر المحلات وهي تمسح صور النساء، وتسقط مجسّم الجيتار من قمة محل موسيقي، ويحاول أن يطمئن العالم على الوضع في بلاده، يقول: كل شيء تمام!! لعله يحاول طمأنة نفسه؛ يمر بمسلحين طالبانيين متجهمين؛ وجوههم تقول إنهم ضائعون في الزمن، غربيون على المكان.. لا يستطيع الشاب مداراة حماسه وقلقه؛ حماس اللحظة، وقلق الغد.. يقابلُ زملاءَه، ويحاورهم، أحدهم ولد في السعودية، والآخر عاش في دبي... يريدون الحياة؛ ترى ذلك في أعينهم، والشاب -ذو اللهجة الحجازية- مثلهم طبعاً، لكنه يصرح بفخر: إن القادمين سيصنعون دولة إسلامية بحق.. لا تفصح ملامحه عن مكنون صدره، لكنها تعيد للذهن سؤال البداية: ماذا يريد الأفغاني؟!
أتذكر أفغانياً غادر مدرباً للمنتخب السعودي في بطولة آسيا للبوكر في الصين.. أتذكر.. غادر مع بعثتنا، على حساب دولتنا، لكن أفغانستان هزمت السعودية، ثم فازت بالبطولة، وكان هو لاعبها الذي جلب لها الميدالية.
تقول الحكاية (الأسطورة) إن الاسكندر المقدوني وهو يحتل العالم، حين وصل لأفغانستان، أطلق مقولته الشهيرة: «من السهل دخول أفغانستان، الصعب هو الخروج منها».. لكنه هو أيضاً، لم يطل المقام فيها بعد احتلالها.. غادرها، ولعله ظل يسأل مثلنا: ماذا يريد الأفغان؟!.