صوته عالق بأذني منذ الطفولة، ولا زلت أذكر هيئته وأذكر حتى ظروف تركيبه وأحفظ أرقام مكتب أمي وأبي ومنزلنا!
في الماضي كانت كلمة «الهاتف» فقط تعني ما يعرف بالهاتف الأرضي هذه الأيام والذي أوشك على الانقراض.. لكن يمكنني أن أقول على عجالة إنه مثل كثير من الخدمات التي لم تكن موجودة في بلادنا حين تأسيسها وتم إدخاله تدريجيًا إلى المدن الكبيرة وفي الدوائر الحكومية الهامة وبيوت الأعيان وهكذا، إلى أن تم تركيبه في المدن الصغيرة لاحقًا، فحتى عام 1353هـ الموافق 1934م لم يكن عدد الخطوط الهاتفية اليدوية يتجاوز (854) هَاتِفًا موزعة على كل من الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف فقط.. ولنا أن نتخيل أن حكومات بعض دول الخليج وزعت في البدايات كتيباً للتعريف بالهاتف بالتفاصيل المملة والبديهية لنا في هذه الأيام: «ارفع السماعة ضع الجزء العلوي على أذنك وستسمع صوتًا متصلاً، ثم عليك بإدارة القرص..» ويبدو أن الخاصية التي توفرت وقتها هي خاصية الاتصال المحلي (نفس المدينة)، والداخلي (بين مناطق المملكة)، حيث إن خاصية الاتصال الدولي كانت في البداية تعقد بين الدول منفردة ويتم الإعلان عنها بفخر في الصحف الرسمية.. ومن الطرائف أن التلفزيون الرسمي في قناته الأولى كان يوجه نداءً لمن لم يقوموا بسداد مستحقات هواتفهم مع نشر أرقامهم!
أذكر أنه كان موجوداً في بيتنا ومكتب أبي بالعمل ومكتب والدتي في المدرسة، ولا أتذكر صعوبة توصيله تلك الأيام لحي البغدادية، لكن لاحقًا وعندما انتقلنا إلى منزل جديد عرفت أن هناك معاملة (مجموعة إجراءات) خاصة يتم فتحها واستمارات يجب أن تعبأ وقد يستغرق هذا الأمر سنوات طوال (دون واسطة) وأتذكر جيدًا إحدى خطوات ما قبل التركيب حين تم تحديد موعد لنا للقاء «المساح» وهو مهندس من الوزارة يقوم بزيارة الموقع وتسجيل البيانات والكشف على أقرب سنترال قريب من المنزل في الحي.. ذهبنا في صباح ذلك اليوم للقاء المساح أمام مطعم الديوان في حي الجامعة بمدينة جدة (المبنى ذي التصميم المائل) وحرص الجميع على التواجد قبل الموعد بوقت كاف حيث إنه لم توجد طريقة للاتصال والتنسيق معه لعدم وجود أجهزة محمولة وقتها، وكانت التقنية الأقرب للمحمول وقتها هي هاتف السيارة الذي اقتصر اقتناؤه أيضاً على المسؤولين والميسورين لأن سعره فاق العشرات من آلاف الريالات وقتها، وكان رمز الاتصال الخاص به هو ٦١٠.. الجهاز المتعارف عليه هو الجهاز الذي وفرته وزارة البرق والبريد والهاتف من شركة «إريكسون» بألوان مختلفة أشهرها الأخضر والبيج، وكان من علامات الوجاهة وجود أكثر من جهاز منه على سطح مكتب بعض المسؤولين، وهنا أنزلق قليلاً خارج الموضوع لوصف ما كانت عليه مكاتب المسؤولين وقتها من وكلاء وزارات على سبيل المثال: كانت مكاتبهم فارهة (غالباً من شركة الجريسي) تفوح منها رائحة نفاذة من القهوة العربية التي تختلط بأجود أنواع البخور، وكان الدخول عليهم صعباً وفي أضيق الحدود، كلمتهم واحدة ولم يكن أحد يجرؤ على عدم تنفيذها.. وقد كان يقال عن المسؤول في وصف نفوذه: «فلان له شنه ورنة!».
للحديث بقية...