«أنا لستُ مريضاً؛ أنا ضيف.... أنا لستُ إنساناً عادياً».. هكذا يصف بطل رواية غازي القصيبي الشهيرة: «العصفورية»، بكل ما تحمله من حكايات متداخلة، واستطرادات في كل اتجاه، وأسئلة لا تزال مشرعة حتى اليوم.. خطرتْ على بالي هذه العبارة، حين رأيت شاباً يسأل عن الرواية في معرض الكتاب.. تذكرت القصيبي، وتذكرت أنه لم يكن إنساناً عادياً أبداً وهو يقدم مسيرة حافلة بالعطاء المهني والأدبي.. خطر على بالي تلك (الأنا) التي تتكرر في أعمال القصيبي السردية، وترتبط بواقع الفانتازيا الذي طالما أصرّ القصيبي على نسجه حول أبطال رواياته المتضخمي الأنا (سواء في العصفورية، أو أبو شلاخ البرمائي، أو سبعة أو غيرها).
في (العصفورية) التي سأل عنها الشاب، وأثار شجون الأمس، تمثّل «الأنا» المنطلق والمنتهى، ومن خلالها يدلف القارئ لعالم العصفورية/الرواية، وهي من سيسيّرنا ويتحكم في رحلتنا وتقلباتها، وفي أسئلتنا التي ستطرقنا ونطرقها ونحن نتقلب بين جنبات عالم العصفورية الغريب.
رواية العصفورية حوار طويل جداً، يبدأ بمدخل يسأل فيه البروفيسور(الشخصية الرئيسة في الرواية) عن الدكتور سمير ثابت، في مصحة العصفورية في لبنان، وما أن يأتي الدكتور سمير ثابت ويلتقي بالبروفيسور حتى يبدأ الحوار، وتبدأ الأحداث.
ينطلق البروفيسور في سرد أحداث مختلفة من حياته، رافضاً أن يعامله الدكتور معاملة المريض، ويستمر في الحديث لمدة عشرين ساعة، يستطرد فيها إلى أبعد مدى يستطيع، ولا يشارك الدكتور إلا لإعادته إلى الموضوع الرئيس، أو الاستفسار أو للتعجب من أمرٍ ما.
يسرد البروفيسور قصة حياة غريبة جداً، أحداثها الأساسية تتلخص في كيفية دخوله لأربع مصحات نفسية آخرها العصفورية حيث يوجد الآن، وتكمن غرابتها في الكم الهائل من القصص الخيالية والتاريخية والاستطرادية؛ التي يصر البروفيسور على إثبات صحتها وصدقه في نقلها، ابتداءً من صداقته ومعرفته لشخصيات مهمة في التاريخ ومروراً بعقدة الخواجة وما خلفته من أثر على مجتمعاتنا العربية، وشغله لعدة مناصب مهمة، وقصة دخوله مصحة مونتري وغيرها، وانتهاء بفشله في تكوين دولة مثالية تحقق له الطموح في إخراج إسرائيل وتطهير جسد الأمة منها.
تنتهي أحداث الرواية بمخرج يبحث فيه الدكتور ثابت عن البروفيسور الذي أخبره أنه سيرحل مع زوجتيه غير الإنسيتين، دفاية والفراشة، لكنه لا يجده ويظل يردد «ضيعانك يا بروفيسور! والله ضيعانك! ضيعانك!».
لعل القارئ يلاحظ أن السخرية تشكّل واحدة من أبرز سمات العمل، وهي أداة ظل القصيبي يعتمد عليها ببراعة.. والسخرية تلعب دوراً رئيساً في تهريب الرسائل كما تعلمون، وفي وصف حالة الامتعاض والإحباط من الوضع الذي مرت وتمر به الأنا التي تعكس بشكل أو بآخر صورة الوطن العربي الكبير.
وتمثلت السخرية في الرواية بأكثر من مستوى، فنجدها على مستوى اللغة، فهو يزاوج بين الفصحى والعامية بأكثر من لهجة، ويدخل الإنجليزية والفرنسية أحياناً.. كما أنه يستخدم مصطلحات بيئية خاصة وظريفة مثل «زتيت حالك»، أو « قول: تم» أو «مش محرزة» أو «يا بعيج البنطال»، ورغم احتشاد هذه التعابير في الرواية، إلا أن توظيفها الذكي جعلها مقبولة، تتناسب وسير الرواية.. كما نلمح السخرية أيضاً على مستوى الأسماء، فصلاح الدين بن منصور أصبح «فساد الدنيا بن مهزوم»، والمتنبي صار «أبا حسيد»، وشكسبير صار «الشيخ زبير» (تعريضاً ببعض الدعوات التي تعرب شكسير) والكثير من الأسماء التي غلب عليها طابع السخرية.. كما تصادفنا السخرية اللاذعة لمجمع السدنة الخالدين (مجمع اللغة)، وتسميتهم بهذا الاسم ضرب من السخرية على مستوى الأسماء، كذلك لا تفوت الرواية فرصة للتعريض بهم أو السخرية منهم، وهناك السخرية من وقوع الحافر على الحافر، والسخرية من محبي مي زيادة، والسخرية من الشعراء كشوقي وأحمد رامي، والسخرية من الأكاديميين، ومن الوزارات في «عربستان» والسخرية من البيروقراطية والديمقراطية.... الخ.
هكذا تكون السخرية أداة الخطاب الحادة والخطرة في تهريب ما يريد النص قوله، عبر هذا النسيج المعقد من الحكايات الفانتازية على لسان رجل مجنون.. هذا التعقيد يجعل تحليل «العصفورية» وتأويلها مسألتين صعبتين، ومهمتين وعرتين.. تجعلني أتساءل إن كان الشاب الصغير في معرض الكتاب، ورفاقه من أبناء وبنات الجيل القادم سيتمكنون من فهم العصفورية وغيرها من أعمال القصيبي، وفك ألغازها، واستخلاص ما تضمه من نبوءات.