التعالم وادعاء العلم والتظاهر بالمعرفة أصبحت من الأمور الطافية والطافحة والبارزة على السطح، وكأن كثيرًا من الناس ألغى من قاموسه المعرفي والعقلي والفكري عبارة «لا أدري».
يا قوم: إن عبارة «لا أدري» هي نصف العلم، فلماذا نتنازل عن هذا النصف الذي لو تدبّرناه وتأمّلناه سيقودنا إلى النصف الآخر؟
وحتى تستقيم الأمور والأحوال في هذا المقال دعونا نستشهد بالشواهد والأمثال: يقول الهيثم بن جميل: شهدتُ مالك بن أنس رضي الله عنه سُئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: «لا أدري».
أكثر من ذلك: تروي كتب التراث أن رجلاً سأل سيفويه القاص: ما الغسليْن؟
فقال سيفويه: (على الخبير سقطت.. سألتُ عنه شيخاً من فقهاء الحجاز منذ أكثر من ستين سنة، فقال الشيخ: «لا أدري»).
وإذا أردتم مزيداً من الأدلّة فإليكم الإمام الشعبي، حين سُئل عن مسألة فقال: لا علم لي بها، فقيل: ألا تستحي؟ فقال: ولمَ أستحيي مما لم تستحيِ منه الملائكة حين قالت: (لا علم لنا إلا بما علّمتنا).
وإذا أردتم المزيد من الشواهد فإليكم عبارة حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- حيث قال: (إذا ترك العالِم «لا أدري» أصيبت مقاتِله).
وقبل ختام المقال: بعض الناس إذا سألته قال: الله أعلم، وهنا يطرح بعض العقلاء سؤالاً حول الفرق بين عبارتيْ «الله أعلم» و»لا أدري»؟ بالتأكيد لن أجيب، بل سأستعين بقصة رجل سأله عمر بن الخطاب عن شيء، فقال: الله أعلم. فقال عمر: لقد شقينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم، إذا سئل أحدكم عن شيء لا يعلمه فليقل: لا أدري.
حسناً، ماذا بقي؟
بقي القول: هذه جرعة من دلالات وإشارات عبارة «لا أدري»، وهي -عند العقلاء- لا تعني الجهل وإنما تعني إعطاء معلومة عن الإنسان بأنه خالٍ من المعرفة في الموضوع الذي سُئل عنه، وهذا الفراغ المعرفي المتوّج بعبارة «لا أدري» ليس دليلاً على التهرُّب، بل هو حافز على البحث والطّلب والاستقصاء، لذلك كلّ العقلاء بلا استثناء إذا سألتهم اليوم عن شيء وقالوا: «لا أدري»، فإنهم يأتوك من الغد وفي جعبتهم الجواب الشافي والحلّ الوافي.