Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

يوميات مدقق لغوي: خيرُ الخطائين «الخطّاؤون» مجدداً...!!

A A
بالخطأ عثرت على كتاب الشاعر والكاتب الساخر فايز الغامدي (صدفة العبور على صواب)، الذي صدر مؤخراً عن دار أثر.. ومَنْ عَمِل في التدقيق اللغوي، مثلي ومثل فايز، يدرك جيداً أبعاد كلمة «بالخطأ» التي افتتح بها مقالي اليوم.. (كما لا أبرئ نفسي من حسنة استفزاز المصحح الذي يدقق مقالي الآن!!).

أقول: «بالخطأ» لأن وصولك للخطأ -وأنت مدقق لغوي- يعني أنك قد وصلت لغايتك، وقد حققتَ معناك.. وأثبتّ الهدف من وجودك كائناً له وظيفة، وسلطة، ومكانة.

الخطأ هو عالمك الافتراضي الذي تعيش فيه وأنت مدقق لغوي. فإن يقع الكتاب الذي تنتظره في يديك، كأن يقع الخطأ تحت عينيك.. كلاهما غاية!! ووفقاً للمنطق فإن المصادفة تعني العثور على خطأ، لكن هذا لا ينطبق في حالة المدقق اللغوي الذي يبحث عن الأخطاء، ويمثّل الصواب بالنسبة لعالمه استثناءً؛ «معنى أن تكون مدققاً، أن تتحول الحياة باتساعها بين يديك إلى صفحة بيضاء، تظل تحدق فيها ملياً لاصطياد الأخطاء والهفوات»، هكذا يصف فايز الأمر.

المدقق كائنٌ مصاب بالريبة والشك؛ يشك في النص الذي يقرأه، وفي العبارة الصحيحة، وفي الكاتب الجيد، وإن لم يجد خطأ تشكّكَ في نفسه، وفي قدراته، وفي الدنيا... كيف تكون الدنيا دنيا دون أخطاء!! هذا أمر غير وارد في شرع المدقق اللغوي، فالأصل هي الأخطاء.. وخير الخطائين الخطاؤون مجدداً...!!

يتناول فايز في كتابه -بأسلوب ساخر جذاب- العلاقة بين النص والمدقق من جهة، وبين مؤلف النص ومدققه من جهة أخرى.. وهي علاقة جدلية شائكة كما هو معروف، عشتها مع الزملاء المصححين كما عاشها فايز: «لا أحد يمكن أن يكتشف الأثر الذي يحدثه المدقق اللغوي على نص ما، سوى كاتب النص نفسه، وهو بالمناسبة قد لا يطيق رؤية هذا المدقق بتاتاً؛ لأنه يرى فيه أخطاءه وعثراته».. من هنا يجد المصحح نفسه حيناً حكماً والكاتب لاعبه المشاغب، ومرةً أستاذاً والنص طالبه النجيب، ومرةً يكون شرطياً والنص والمؤلف تحت أعين الشبهة.

يسجّل فايز في كتابه الشيّق يوميات هذا المدقق المسكين الذي لا يكاد يشير إلى دوره أحد، على الرغم من أهمية دوره في الصحف والمجلات ودور النشر وشركات صناعة المحتوى. وبصفتي متصلاً بهذا العالم، فيمكن أن أقول إنه لولا هذا «المدقق» لظهرت كوارث «إعلامية وثقافية» تسوء الناظرين.. (هل ركزتم في كلمة كوارث؟! لقد فعل مدقق المقال بالتأكيد).

يعرف المدققون نقاط ضعف الكتّاب التحريرية؛ يعرفون صاحب العبارة الركيكة، والإملاء المعطوب، والنحو المعصوب، وكما يعرفون الكاتب المميز، يعرفون كذلك أولئك الذي دخلوا لعالم الكتابة بالواسطة، ولا شيء غير الواسطة، لا بارك الله فيهم... ولا في الواسطة. يتخيّل فايز لو فتح المدقق عيادة طبية للتدقيق، يكون زوارها من الكتاّب، يتصور كيف سيواجه الكتبة خجلهم في غرفة انتظار العيادة، وكيف سيتجاوزون هذا الخجل، حينما يعرفون أن خلفهم جميعاً مصحح يعالج سقم أقلامهم، ويداوي كسر عباراتهم.

كتاب فايز مليء بالأفكار الجميلة والقصص الطريفة لهذا الكائن العجائبي الذي يدعى «المدقق اللغوي»؛ ذلك الذي له حظوة القراءة الأولى للكتابات الجميلة، وعليه تقع الملامة في حال وقوع الخطأ، بينما يتلقى المؤلف المديح فقط. المشكلة لدى هذه السلالة (المهددة بالانقراض) من المدققين أن ممارسة «التصحيح» تتحول هاجساً يومياً، وربما وسواساً قهرياً، أتذكر أنني كنتُ أصحّح لرجل مرور -وهو يحرر لي مخالفة مرورية- أخطاءه الإملائية، وهو ما كاد ينتهي بي إلى غرفة الحجز، لولا لطف الله. أحد الزملاء (من الصنف ذاته) عاد إلى منزله فوجد ورقة من زوجته تقول: هذه نتيجة إهمالك لي و(لأبناءك). يحكي لي بصراحة، أنه لا يعلم هل استاء أكثر من هجر زوجته له، أم من الخطأ الإملائي في رسالتها!!

وهكذا يمثّل الكتاب رحلة شيقة ولطيفة، ويجبرك ألا تتركه قبل أن تنجزه قراءةً وتصحيحاً..!! فايز كاتب هادئ وجميل.. يهدي -بلمسة وفاء شاعرية- كتابه لأبناء مهنته الضائعين في شتات الأخطاء

يقول: «لتلك الأعين المحدقة دوماً في البياض، المرتوية بجفاف الحبر، والمتدفئة بصقيع الحروف، لرفاقي.. مدققي اللغة، وحراسها المنسيين». أخذني هذا الإهداء الجميل لسنين التصحيح وأصدقائه في كل مكان؛ فكرت في محمد إعلاو شيخِ مصححي الصحافة المحلية، وفي أثره العظيم عليّ وعلى أجيال من أهل اللغة.. فكرتُ في عبدالصمد الأنصاري، وعبده حكمي، والزاكي عبدون (رحمه الله)، وعبدالله البشيري، ومحمد مسير مباركي، ومحمد باعاصم، ومحمدجروض، وفي أخي سمير... كما فكرت في نفسي طبعاً، واستعبرتُ منشداً:

ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها.. وكأنهم أحلامُ..!!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store