يُشكّك الواقع في وصف الإنسان بأنّه حيوانٌ عاقلٌ، فالإنسان بطبيعته له اندفاعاتٌ انفعالية، ووساوسُ قهرية، وينتهجُ في كثيرٍ من الأحيان تصرّفات أقرب إلى العَته، والعدائية، وفرط الأنانية والاستحواذ، على حساب أيّ اعتباراتٍ أخلاقيةٍ أو دينية، فالبشر لا يتصرّفون عادة من مُنطلق العقل والأخلاق، بل من مُنطلق الغرائز، والنّزوات، والمصالح.. يقول الفيلسوفُ الرّواقي (سينيكا): «العقلُ السّليم لا يُشترى ولا يُعار، ولو أنّه عُرضَ للبيع فأشكّ في أن يجد شارياً.. ولكنّ العقول الفاسدة تُشترى كل يوم».
إنّ معظم المشاعرِ والوساوسِ والنّزوات التي تعرِض لأحدهم، تعرِض أيضًا لكثيرين غيره، إلا أنّ اختلاف الإمكانيات التعبيرية والنفسية، له أثرٌ بالغٌ في ظهورها أو كِتمانها، ويحدّد قدرتهم على التظاهر بالثّبات الانفعالي والاستقرار النفسي.. فيا صديقي: لا تقلق، أنتَ لستَ وحدَك الذي تشعر أحياناً بأنّه قد أصابك الجنون، فكثيرون مثلك، يُجاهدون في سبيل حمايةِ عقولهم من الخَبل.. لكنّ الفرق هو أنّ «العاقل» أكثرُ قدرةً على إخفاء لوثتهِ العقليّة من غيره من «المجانين»!
وعموماً، لا يبدو أنّ الجنون أمرٌ سيئٌّ على إطلاقه، فكثيرٌ من العباقرة والمفكّرين والمتأمّلين، يُذهَلون عن بعض الأمورِ التقليديّة، والروتينيّة المنطقية في نظر غيرهم، وقد يُنعَتون بالحماقةِ والغرابة والابتذال، فهم مُنشغلون بعالمهم الإبداعي الخاص، وقد يتخطّون حاجز العبقريةِ إلى الجنون! وكما أنّ الشُّجعان هم من يصنعون التاريخ، فأنصاف المجانين، وأصناف المهووسين، يشاركونهم في صناعته!. إنّنا في كثيرٍ من الأحيان، نُطلق على «المجنون» هذا المُسمّى، حين نعجزُ أن نكون مثله! ولو افترضنا جدلاً أنّ قيساً لم يكن بذلك الجُنون الذي نُعتَ به، فهل كنّا لنسمعَ عن شِعره المجنون في كتب الأدب؟!.
إنّنا عندما نغرق في تفكيرٍ عميق وتأمّلٍ مُذهل، قد نفقدُ صوابَنا ونقترب من حدّ الجنون أو نتخطّاه، وهكذا يُمكننا أحياناً أن نفهمَ أموراً عميقة، ونستوعبَ مُعضلاتٍ تحيّرنا حين نكون في وضعيّةِ العقل ونَسَق المنطق!. يقول الدكتور (علي الوردي): «أكثر الناس راحةً في هذه الدنيا هو المجنون، إذ هو يعيشُ في حلم مُستديم.. إنّه يصوّر الدنيا كما يشتهي، فإذا وجدَ الناسَ حوله لا يفهمونه ولا يستجيبون له، نحى عليهم باللائمة، وعّد نفسه العاقلَ الوحيد دون الناس».. وعموماً يا صديقي، حافظ على الجزء المجنون في عقلك.. صدّقني، سوف تحتاج إليه يوما ما!.