Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

لفــــة

A A
كان وزننا حوالى ثلاثمائة ألف كيلو جرام عندما بدأ تسارعنا المذهل على المدرج الشمالي الأوسط في مطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة، وتحرَّكنا بإرادة الله باتجاه واشنطن على رحلة الخطوط الجوية العربية السعودية رقم 35..

وبالرغم من أن الطائرة لم تكن محمَّلة إلى أقصى درجة بالركَّاب وأمتعتهم، وبالرغم من أنها لم تكن مليئة بالبضائع، إلا أنها كانت تعتبر ثقيلة بسبب احتياجات الوقود التي كانت حوالى مائة وعشرة آلاف كيلو جرام.. ما يعادل محتوى حوالى ثلاثمائة وعشرين ألف علبة فيمتو. وبسبب وزننا الثقيل، فهناك حدود للمناورات الجوية بما فيها اللفَّات التي لا تتعدَّى زوايا ميلانها حوالى 15 درجة.. وبعد الإقلاع استمرينا على مسارنا الشمالي إلى أن وصلنا إلى أجواء مدينة «نيوم» الجديدة في شمال الوطن، وعندها، لفينا لفة سلسة بسيطة إلى الغرب، نحو أراضي مصر الشقيقة، لتكملة نقاط مشوارنا الطويل بمشيئة الله. وجميع لفَّات الطيران جميلة، فهي عملية مذهلة تُداعب الهواء، وقوى الجاذبية، وغيرها من قوانين الفيزياء الدقيقة. ولو لم تراقب اللفة وتشاهدها أثناء جلوسك بداخل مقصورة الركاب، فالغالب أنك لن تشعر بها، فهي حقاً من جماليات سحر الطيران. فضلاً لاحظ أن الطائرة تميل على الجهة التي تلف إليها، مثل الدراجة، ولكن بدرجة جمال ووقار ودقة لأنها «تتشعبط» على الهواء بسلاسة، لتستخدم قوى الرفع للالتفاف. عند ميلان الطائرة، فالغالب أنها ستلف، وعندما تلف فالغالب أنها ستميل، ولا مهرب من ذلك..

ولكن الأجسام بداخلها لا تميل بنفس الدرجة، فلو كنتَ مثلاً تستمتع بفنجان شاهي أثناء اللفة، فلن يميل محتواه، بل سيبقى كما كان قبلها.. والأهم من ذلك لن تسقط عليك المضيفة، وعربة الطعام، والمشروبات، والركَّاب بجوارك. الأجسام الطائرة تُكوِّن جاذبيتها الخاصة بداخلها، ويصبح موضوع الوزن والشعور بتغيُّراته من المسائل النسبية حسب الاتجاه، والسرعة، ودرجة الميلان والتغيرات فيها.. وهذه من أساسيات الطيران.

وإحدى أهم ما يُدركه الطيَّار هو: وضع الثقة الأولى في عدادات الطائرة قبل الأحاسيس البدنية التي يستعملها دائماً. وفي الطائرات التجارية، كل هذه العوامل سلسة ولطيفة حرصاً على راحتنا، ولكن في الطائرات المقاتلة تصل حدودها إلى درجات مذهلة. وكمثال فركَّاب الطائرة يشعرون بزيادة أو نقص في أوزانهم حسب شدة المناورات، وبالذات درجة الميلان خلال اللفات.. وتلك الزيادات في الطائرات التجارية نادراً ما تكون ملحوظة، حتى خلال المناورات الجريئة، ولكن في المقاتلات تصل إلى ما يعادل سبعة أمثال وزن الطيار.. يعني خلال المناورات القتالية العنيفة ممكن أن يصل وزن الطيار إلى حوالى خمسمائة كيلو جرام أو أكثر خلال اللفات العنيفة.. تخيَّل هذا الحمل الهائل والجهد الجبَّار.. وهذه من مئات الأسباب لوقفات الاعجاب والتقدير لطيَّاري قواتنا الجوية البواسل.

أمنية:

هناك ما هو أهم من لفات الطائرات في الأجواء.. حيث نجد على الأرض أن فنون «اللف والدوران» أصبحت تنمو بطرق مقلقة، في ظل انتشار فنون «البكش»، وتطوُّر تقنيات الاتصالات للوصول إلى البشر بطرقٍ لم نحلم بها قبل سنوات قليلة. وتلك الفنون لا تخضع لأي قوانين في عالم الفيزياء، ولا حتى في عالم الأخلاق.. أتمنى أن يقينا الله شرورها، وهو من وراء القصد.


contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store