* يظنُّ بعض الناس خطأً، أنه يمكنهم الاختيار من التيّار الجارف للمدنية الحديثة، والانتقاء منها ما يناسبهم، ومنع ما لا يناسب أمزجتهم، لكن الواقع يشير إلى أنّ الحضارة الحديثة لا تعترف بالحدود، ولا تهمّها الاختلافات والأمزجة، فهي تقتحمُ عليك دارك اقتحاماً، ولا تملك إلا التّعامل مع خيرها وشرّها، شئتَ أم أبيت.
* القلقُ والتوتر والصّخب النفسي وعدم الانسجام، هي السبُل الوحيدة للتقدّم الحضاري والتغيّر الاجتماعي، وهي في ذات الوقت، تُعدُّ من وسائل تدمير الإنسان لنفسه!. إنّ أسوأ ما أفرزته الحضارة الحديثة بتقنياتها وتطوّرها السريع، ضياع كينونة الإنسان، وانفلات رغباته، وتعقّد شهواته، وانهيار قدواته، وفقدانه الطمأنينة النفسية.
* تدين البشرية جمعاء، لقلّة قليلة من الأفراد المُبدعين الاستثنائيين، الذين برعوا وابتكروا وقادوا، ولولاهم لما كان التحضّر ممكنًا.. إنّهم أولئك الذين تفرّدوا وثاروا وخرجوا عن السائد والمألوف، وهم ندرةٌ قليلة وسط الجموع التابِعة المُسيّرَة الهوجاء.
* يُشير التاريخ، أنّه كلّما ازدادت المدنيّة تطوّرًا وترفًا، ازداد مستوى الأخلاق الفردية والعامة انحداراً وابتذالاً، وانتشر المُتملّقون، بالتزامن مع اتّساع رقعة الظّلم الاجتماعي، إلّا أنّ (دوستويفسكي) يرى أنّ «الحضارة تهذّب الإنسان، وتجعله من ثمة أقلّ تعطشاً للدماء، وأقلّ اندفاعاً لخوض الحروب»، وهو أيضًا أمرٌ مُلاحَظ.
* لو استمرّ الناس في قول ما يُعجب الآخرين، والاتفاقِ مع غيرهم فيما ينال استحسانهم فحسب، لما تقدّم المجتمع البشري وارتقت الحضارات، ولا تراكمت المعرفة وتحسّنت معايش الناس.. يقول (سيجموند فرويد): «بدأت الحضـارة فعلاً، عندما قام رجلٌ غاضب بإلقاء كلمةٍ بدلاً من حجر».
* من سُنن الله تعالى، أنّ الحضارات الإنسانية تُولد وتنشأ وتشتد وتزدهر، ثم تضعف وتمرض وتهرم وتندثر، لتظهر حضارات وأممٌ جديدة تسير كغيرها إلى صيرورة الهلاك والفناء، حتى يرثَ الله الأرضَ ومن عليها، ثمّ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
* والواقع يُظهر، أنّه بعيداً عن الحضارة والتنافسِ والتعاون، ومدى التطوّر والترف، وفي ظلّ تعقّد الحياة المدنيّة وتسببها في تشتيت الانتباه وتكريس الإفراط في الاستحواذ، يكمن الهدف الحقيقي للإنسان السّوي، في الانعتاق والتحرّر، والجلوس في هدوءٍ وعزلةٍ ولا مبالاة، غير مكترثٍ بشيء، وأن يعيش مُطمئناً.. مُطمئناً فحسب.