ليس المجنون من فقد عقله بل من فقد هدفه ورغبته الحقيقية في العطاء والإنجاز في زمن لا يعرف فيه الكبير من الصغير ولا العاقل من المجنون ولا تجد من ينزل الناس منازلهم إلا القليل ممن بقيت لديهم القيم السامية ومكارم الأخلاق التي عرفت قديمًا عند العرب.
إيمانك الحقيقي بقدراتك ورغبتك الصادقة في ترك بصمة لك في هذه الحياة يجعلك قويًا شامخًا شموخ الجبال مهما كانت العواصف التي تحيط بك ومهما كانت التحديات وشراستها ومهما وقف في طريقك أعداء النجاح والمحبطون والمثبطون والحاقدون والحاسدون، أنت من تحدد هدفك وغايتك وأنت من تقرر إن كنت ستكمل المشوار للوصول للغاية التي تريد أو ترفع الراية البيضاء مستسلمًا متخاذلاً وتفرح قلوب أناس مرضى عاجزين عن الإنجاز الحقيقي ولا يجدون طريقة لتغطية عيوبهم وضعفهم الا بمحاربة المتميزين وتشويه سمعتهم والاستماتة في النيل منهم والتقليل من شأنهم وتشكيك الناس فيهم واتهامهم بكل التهم الرخيصة التي لا تمت لروح المنافسة الشريفة بصلة.
الكلمة الصادقة والعمل الحقيقي بحب وشغف وإيمان كبير بالله جل في علاه يفتح لك آفاقًا رحبة شاسعة لا حدود لها.. الصدق منجاة حقيقة يعيشها البشر الأنقياء الذين يعملون باستمرار على تنقية الشوائب والأحقاد من قلوبهم، في دواخلنا الكثير من المشاعر المتناقضة والمتداخلة ولا يزكي نفسه إلا إنسان مريض بحب وتقديس الذات أما الإنسان السوي ينظر إلى عيوبه ونواقص شخصيته ويعمل جاهدًا للتخلص من تلك العيوب ويستثمر وقته في تنمية قدراته وملكاته.
كم تلهمني قصص التاريخ في أفلام هوليوود دومًا أجد كلماتي تتسارع عندما يقدم عمل فني في السينما الهادفة فكان فيلم الأستاذ والمجنون يحكي لنا عن تاريخ كتابة معجم أكسفورد الذي نجده اليوم في كل مكتبة على وجه الأرض، كيف كانت بداية التفكير في إيجاد معجم لغوي لكل مفردات اللغة الإنجليزية واعتقد جازمة أن كل طالب تعلم مبادئ هذه اللغة لابد أنه اقتنى هذا المعجم بكل أحجامه الصغيرة والكبيرة وأرى أمام عيني الآن ذلك المعجم الصغير جدًا والذي اشتريته وأنا طالبة في المرحلة الثانوية ليكون معي في حقيبتي المدرسية وما زلت احتفظ به حتى هذه اللحظة.
قصة جمع الكلمات ومعانيها عبر التاريخ لم تكن مهمة سهلة إطلاقًا ولم يقدر عليها أساتذة أعرق الجامعات في أوروبا وتصدى لها رجل شغوف باللغة ولديه هدف ليخلد اسمه في التاريخ عبر الزمان تحدث بثقة بالغة أمام الأساتذة المتخصصين وهو لا يحمل شهادة علمية مرموقة وعرف بنفسه بأنه تعلمه ذاتي، وحدد تاريخًا معينًا لتسليم العمل، وخطرت له فكرة إبداعية ليشارك كل أفراد المجتمع في كتابة معاني الكلمات وبالأحرف الأبجدية من البداية وحتى النهاية وتم إرسال الخطابات والرسائل لكل مكان، حتى وصلت هذه الرسالة لطبيب مجنون حكم عليه بالسجن بتهمة القتل يعاني من انفصام الشخصية ولكنه عبقري سهل مهمة الأستاذ في تحقيق حلمه وأمله وكتب اسمه على المعجم ولم يرض هذا الأستاذ إلا بأن ينسب الفضل لأهله وإن كان مجنونًا في نظر القانون والمجتمع من حقه أن ينال فرصته وليؤكد معنى جليلاً بأن الصديق وقت الضيق وأن من يفعل المعروف لن يعدم جوازيه أبدًا، تؤكد مشاهد الفيلم بأن الحب يصنع المعجزات ويعيد للعقل توازنه، قاموس أكسفورد التاريخي لم يحفظ فقط تاريخ اللغة ومفرداتها ومترادفاتها وأصول الكلمات ومعانيها الخالدة عبر الأزمان؛ بل خلد لنا قصة إنسانية تكاد تكون من الخيال ولكنها حقيقة ما أجمل أن يهبك الله صديقًا يفهمك ويقدرك ويؤمن بك ويحارب الدنيا من أجل أن تنال حقك، هذا ما فعله الأستاذ العاقل مع الطبيب المجنون لينال حقه في الترحيل من سجن كان لا يراعي حقوقه الآدمية ليذهب إلى دياره ويشخص مرضه بالانفصام في الشخصية ويمضي بقية حياته مع أهله ومحبيه.
إيمانك العميق بقدرة الله وعدالته وعظمته بأنه سيسخر لك من عباده الصالحين من يقولون كلمة الحق وينصفونك يومًا ما تجعلك دومًا راضيًا مرضيًا بأقدار الله، مهما طال الزمان فما لليل الظلم من بقاء ولابد أن تشرق الشمس كل صباح لتعلن ميلاد يوم جديد ينتظر منا بصمة عطاء ومشاعر حب حقيقية للكون كله فرب الكون هو العاطي الوهاب ولن يترنا شيئًا مما قدر لنا فأقدار الله كلها خير علمنا بها أم جهلنا وما أجمل أن تعيش بروح السعداء الطامحين الحالمين المستبشرين خيرًا دومًا وأبدًا، فاللهم أوزعنا شكر نعمك علينا الظاهرة والباطنة وبارك لنا في ما رزقتنا.