قبل ثلاثين عاماً، كان محمد سالم باجنيد يناقشُ مع صديق له فكرةَ اللوحة التي طُلب منه أن يصممها.. كانت المهمة كتابةَ الآيتين القرآنيتين (فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً)، لتعلّق على جدار وكالة من الوكالات في جدة.. حينها جاءت الخطاطَ الستيني النابغةَ الفكرةُ الملهمةُ التي بنى عليها مشروعه الفني بعد ذلك؛ تلك الفكرة هي (رسم المعنى/ الدلالة) لا الاكتفاء بكتابتها بخط جميل فقط: «هذه الآية تحمل معنى يستوجب أن تظهره من خلال كتابتك»، هذا ما قاله باجنيد لصاحبه، ثم أنجز اللوحة مركزاً على معنى التضاد والتقابل (السهولة والصعوبة) في الآيتين الكريمتين، ليبدع أول أعماله الفنية وهو يستقبل عِقده السادس.
في نيويورك، وحين تدلف لمبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ستقابلك لوحة تحمل داخل إطارها كسوة الكعبة، ذلك الرداء الذي تعطّر زمناً بجسد الكعبة الشريفة.. وهي لوحة أهدتها المملكة العربية السعودية للأمم المتحدة، بتصميم من محمد باجنيد.
توفي محمد سالم باجنيد رحمه الله قبل عامين، لكنّ شاباً أنيقاً (اسمه محمد سالم باجنيد) استقبلنا في جدة التاريخية ليأخذنا في جولة جميلة وثرية في معرض جَدِّهِ الذي احتل مبنى جميلاً (بيت الشربتلي).. كان الشاب محمد يتحدث بشغفِ فنان ودقة ناقد؛ حرص على أن يأخذنا إلى أبعد من ظاهر الفن إلى عالم من التأويل العجيب.. كان يؤول دلالات اللوحات ويربط بين التفاصيل وما يمكن أن تشير إليه، فيسألنا عن امتداد هذا الخط هنا، وعن قاعدة تلك الآية هناك، وعن تكرار هذه الحروف ودور الألف الفاصل بينها، وعن أمور أخرى في لعبة تأويل شيّقة.
هناك.. لم أستطع مقاومة الإغراء، فسألته: هل أنت متخصص في النقد؟ أجابني مبتسماً: لا.. في السوسيولوجي.. لكني تعلّقت بفنّ جدي، حتى أدركتُ من أسراره ما ترون... لمحتُ حينها وجه جدّه الفنان، يطل من زاوية القاعة، بابتسامة جميلة.. تفيض فخراً وفرحاً.
الفكرة التي اعتمدها باجنيد خلاقة تستحق التأمل؛ أعني مبدأ (رسم الدلالة).. واحدة من اللوحات الجميلة هي تلك التي خط فيها الآية الكريمة (وفوق كل ذي علم عليم).. يلاحظ المطلع أن باجنيد لم يكتفِ فقط بكتابة الآية بخط جميل، وكان ذلك سيكفي أي خطاط، لكنه لم يكن خطاطاً عادياً، بل كان فناناً حساساً يستشعر ما هو أبعد من ظاهر المكتوب.. لذلك بنى اللوحة -بتصميم عمودي تراتبي مدهش- لتكون الكلمة الأولى (وفوق) قاعدةً للوحة، ثم تأتي فوقها (كل ذي) التي تحيل على المخلوقات مهما كان نوعها وبلغ مدى علمها، ويعلوها بعد ذلك كلمة (علم) وما تشي به دلالة علوِّ العلم بالمخلوق ورفعته، لتنتهي اللوحة بلفظ الجلالة (عليم) يعتلي اللوحة ولا يعلى عليه سبحانه عز وجل.. تشير الآية الكريمة في دلالتها إلى التراتبية الهرمية، فيحاول باجنيد رسم هذا المعنى في لوحته التي تستحيل تحفة تتحد فيها عبقرية الفن بقداسة المعنى: لاحظوا معي.. هناك دلالة تنتجها الآية؛ هذه الدلالة تتكون من دالٍ ومدلول؛ وإن كان الصوت هو الدال (أي لفظ الآية)، فإن المدلول سيكون (صورة هذا اللفظ المطبوعة في الذهن)، والعلاقة بين هذين العنصرين تنتج المعنى (دلالة الآية)، وتكون كتابة الآية امتداداً لهذه العلاقة، والدلالة الناتجة عنها.. لكنّ صاحبنا باجنيد لا يكتفي بهذا المستوى من العلاقة، ومنذ متى اكتفى الفن؟! ما يفعله باجنيد أنه بمحاولته رسم الدلالة أنه يحوّل الدال (المتمثّل في الخط المرسوم على شكل لوحة) إلى دلالة في حد ذاته.. دلالة تتكون من دال ومدلول.. وهو وفي محاولته هذه ينتقل لمستوى آخر -وربما أعمق- من الدلالة، لأنه يرسم الدلالة.. وبذلك يتحول المرسوم الجديد إلى دال، مدلوله صورة الرسم في الخيال، ودلالته الجديدة التي تتحقق بمحاولة فهم المعنى المرسوم المتعلّق بمعنى ودلالة الآية الأصلية.. لكنّ هذه الدلالة الجديدة -في العمل الجديد الأعمق- تتكئ على التأويل وتشتغل على نطاق القراءة لدى القارئ، أي أنها تعتمد كثيراً على تصوّر القارئ لكل من: 1) الآية: في سياقها القرآني المقدّس (قصة الآية، سبب نزولها، تفسيرها، الحكمة والرسالة خلف الآية ...). 2) الرسم: بوصفه علامة فنية لها طابعها وشفرتها الخاصة في القراءة. 3) فن الخط وأبعاده الثقافية والفنية المختلفة، ثم 4) العلاقة بين الفنّان والفن والآية: وهي علاقة معقدة كما نرى.
كل هذا -وأكثر- حاول السوسيولوجي الجميل محمد باجنيد (الحفيد) إيصاله لنا... وهو يتجول بنا في معرض جدّه محمد باجنيد.. العابق بالجمال، والمؤثث بالقداسة.