في هذه الأجواء الباذخة التي تمر بها المملكة، يكون لجلسات السمر حول النار كيفها الخاص، وللشاي المحبوك سطوته وحضوره كما يقولون؛ أنا من فريق القهوة، لكنّ للشاي عند أهله حكايات وحكايات، تبدأ بأنواعه، ولا تنتهي بتخديره وتعطيره وتبهيره.. بالنسبة لي يمثل الشاي تاريخاً من القصص العجيبة التي خبرتها مع أبي رحمه الله.
كان لأبي يا جماعة الخير طقوس عجيبة، وحكايات أعجب، لذلك ارتبط الشاي في ذاكرتنا، أنا وإخوتي بأبي.. خميس؛ كنا إذا سمعنا طقطقة غريبة في المطبخ، صخباً لا يشبه حضور أمي الهادئ، أدركنا أن «القحم» قرر أن يضبط براد الشاي لنفسه، ولا أحد يمكنه أن يعترض، أو يتدخل، (اللهم إنا لا نسألك ردّ القضاء...) هذا ما كنا نستطيعه!
كان لا يكون رائق المزاج أبداً مثلما يكونه في جلسة الشاي، «تراه إذا ما جئته متهللاً....» (من عرف أبي يدرك معنى أن يقابله العم خميس هكذا)، كانت جلسة الشاي لحظته الخاصة للاستكنان، وأصل «استكنان» غير معروف؛ قد يكون اشتقاقاً حديثاً من السكون، فنقول «يستكن استكناناً»، أو أنها من «استكانة» العراقية، التي تعني كأس الشاي، وهي بالمناسبة ليست كلمة عربية، ولا فارسية، ولا علاقة لها بالشرق كما يبدو، بل إنها تعريب عجيب لعبارة (East tea can– أي علبة الشاي الشرقي)، فتحولت بقدرة قادر إلى «استكانة»، واستكانة أبي مضلعة شهيرة، ظل زمناً لا يشرب الشاي إلا فيها، ومن بُرّاده الخاص، (نحن نقول بُرّاد بضم القلب، وأصدقائي الحجازيون يضحكون لأنه لديهم «بَرّاد»، هكذا بالفتح، والفتح -عكس الضم- يهرّب الحرارة ويطرد الدفء)، وبالمناسبة.. لم نختلف أنا وإخوتي على شيء من إرثه بعد وفاته -رحمه الله-، سوى على هذا البراد (والقضية لا تزال منظورة في الأمم المتحدة!!).
بعد الفجر، كان يطل علينا بعبارته التهامية الأثيرة: ميد أم فول؟ (ودكم في الفول؟)، وهو إغراء طريف لا نقوى مقاومته أبداً، خصوصاً وأن ما يصاحبه دوماً تلقيمة شاي خميسية لا يضاهيها تلقيمة، لكنّ الأطرف والأجمل -بطبيعة الحال- تحتكره جلساتُ الشاي التي كانت تجمعه بأمي، وما أكثرها (لأن الوالدة -حفظها الله- كييّفة شاي أيضاً)، أجمل ما في لقاء العمالقة هذا هو الهدنة المزيفة؛ كانا يتفقان على هدنة قبل بدء الجلسة، يوقعان معاهدة عدم اعتداء، يعتمدانها من لجنة التعديات، لكن المرحوم كان مجبولاً على التجاوزات وكسر المعاهدات، لذلك لم يدم الصفاء؛ كانت أمي تغضب من تدخلاته في صُنع براد الشاهي، لأن أبي -رحمه الله- كان يخبّص، ويخترع، وكانت أمي تُستفز، ومن يلومها؟! تخيل أن يبتليك الله في ساعة الكيف بمن يحوس مزاجك.. تخيل فقط!!
انتهى الأمر بأن أعلنت أمي الاستقلال والتمرد! وحصلت على برادها الخاص، أبي لم يتبْ طبعاً.. ولم يرعوِ.. (وللعلم فقط.. فـ»يرعوي» هذه لا علاقة لها بالرعي)، المهم أن أبي لم يتوقف أبداً عن اعتداءاته وتخبيصاته، (ولا تزال نزاعاته الحدودية مع أمي منظورة أيضاً)، بل إن الحال تطورت مع نزعات أبي الغريبة، وأصبحت جلسة الشاي لديه أقرب إلى معمل كيمياء؛ هكذا كنا ندخل عليه، فنجده وحيداً في حالة خدرٍ بين الصحو والمنام؛ أمامه البراد، والكفتيرة، وعلبة الشاي الأسود، وأعشاب مختلفة اللون والرائحة (الله وحده يعلم ماهيتها)... وفوق هذا كله ستة أو سبعة فناجين مليئة بالشاي... والعجيب كل العجب، أن كلاً منها لا يشبه الآخر في طعم أو رائحة أو لون... وحين نندهش ونسأله، يبتسم؛ ويبدأ الخيميائي في السلطنة!!
أصيب بالسكر منذ وقت مبكر، فأصبح مع الزمن لا يستطعم الشاي المحلى أبداً، وفي سنيه الأخيرة أصبح يشرب الشاي المبرّد؛ (آيس تي.. لكن على طريقته.. يلقّم البراد في الليل.. ويحطه في الثلاجة..
من أنبأك هذا!!). واحدة من أجمل وأطرف الذكريات التي أحتفظ بها؛ مررتُ عليه في استراحته عصراً أسلّم عليه، فأصرّ علي بالبقاء، والعشاء معه، أغراني بلَحْمة جديدة سيصنع بها عصيدة ومرقاً بيديه... «عصيدة ومرقة بيديه»؟! إغراء آخر لا يمكن مقاومته.. وافقت.. وجهّز لنا البراد.. قُبيل المغرب كنت في جلسته الخارجية، أستمتع بحديثه الشيق الشفيف، حين توقفَ عن الكلام فجأة..
رفع فنجانه ورشف رشفة، ثم أشار برأسه إلى قطٍّ يمر من أمامنا وفي فمه قطعة لحم كبيرة. سألني:
- تدري ايش هذا يا عادل؟
- ايش؟؟؟
- هذا عشاك يا صديقي... ثم ابتسم، ورشف من فنجانه كرةً أخرى!!