لم أتوقع أن أقرأ تعليقاً لأستاذ جامعي أمريكي يُدرِّس مادة «التراث الواقعي» في جامعة هارفارد مقالاً في مجلة يسارية (فورين بوليسي) يكتب عادة فيها الليبراليون النقد، ويُحلِّلون ما يجري في العالم من وجهة نظرهم المتطرفة، يُسفِّه فيها النظرية الليبرالية الحالية تحت عنوان ملفت للنظر يقول: «الأوهام الليبرالية تسببت في أزمة أوكرانيا»، ويقول استيفن م. والت في تحليله الذي نشر (بالفورين بوليسي) يوم 19 يناير الماضي، أنه لو لم تسقط الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في أوهام الليبراليين وأمانيهم، وعوضاً عن ذلك اعتمدوا النظرة العلمية على واقع الأمور، لما تصرَّفوا كما يتصرَّفون في ما يتعلق بأوكرانيا. فالعالم يدفع اليوم ثمناً غالياً بتصرّفه على أساس نظريات خاطئة للسياسة العالمية.
الليبرالية اعتبرت سقوط الاتحاد السوفيتي نصراً كبيراً لها، ورأت النخب الغربية بعد الحرب الباردة، أنه على (القيم الليبرالية) أن تقود السياسة الخارجية لبلدانها. وأخذ الليبراليون يقسمِّون العالم إلى (فسطاطين)، أحدهما «دول جيدة»، وهم أولئك الذين يطبِّقون القيم الليبرالية، و» دول سيئة»، وهم بقية دول العالم. والحل لهذا الوضع، في نظرهم، هو إسقاط الأنظمة القائمة وإقامة المؤسسات الديموقراطية والأسواق الرأسمالية في كل الدول. ويرون أن انتشار الأنظمة الديمقراطية سيؤدي إلى وقف الحروب، إذ يرون أن الدول الديموقراطية لا تحارب بعضها البعض، ويكون الرباط في ما بينها قائماً على التجارة والاستثمار وقواعد حكم متفق عليها. وهذه السياسة الليبرالية هي التي تنطلق على أساسها التصرفات في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية.
الليبراليون، ومعهم كثيرون من النخب السياسية في أمريكا وأوروبا، أسكرتهم التحولات التي وقعت بعد الحرب الباردة، وسقوط الأنظمة الشيوعية التي زرعها ورعاها الاتحاد السوفيتي في أوروبا الشرقية، وحلول أنظمة بدساتير ديموقراطية أو شبه ديموقراطية محل أنظمة الحكم التي كانت قائمة، واعتقدوا أن العالم يستطيع الخلاص من الحروب وكثير من المآسي باعتماد نظام حكم واحد، هو النظام الديموقراطي الذي انتصر في حروبه ضد ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، واليابان الإمبراطورية، ثم ضد الاتحاد السوفيتي وجمهورياته الشيوعية، إلا أن هذا الأمر مجرد نظريات، وليس واقعاً عاشه العالم، وجرَّبته الدول في علاقاتها ببعضها البعض. ورغماً عن أن الليبراليين في إدارة جو بايدن بأمريكا يقولون إنهم سيُعالجون خلافاتهم مع الدول الأخرى عبر الحوار، وليس باستخدام القوة، إلا أن ما نشاهده؛ هو تصاعد التحركات العسكرية في البحر والجو والبر، تعبيراً عن ما تسعى أمريكا لنيله، أكان في علاقاتها مع الصين أو روسيا أو الدول الأخرى. هذه التحركات العسكرية قد تؤدي إلى تفجير صراعات حربية لن يكون بالإمكان تفاديها بالكلام الناعم، كما أن الليبراليين يسعون لفرض نظرياتهم على العالم، لا أن يتم التوافق عليها، ولا يقبلون بالتعايش مع الآخرين، بل على الآخرين أن يتشبهوا بأنظمتهم.
روسيا والصين تسعى الآن إلى تبنِّي مفهوم دولي للسياسة الخارجية، بعيداً عن مفهوم الليبراليين الغربيين الذي يقوم على الواقعية وتقبُّل الآخر، لا السعي لتغييره.
وبدأت هذه الإستراتيجية في البروز عبر مواقف كل من روسيا والصين تجاه أحداث العالم. والمتوقع أن يتم وضعها في ملفٍ واضح يُحدِّد المعايير والأسلوب الذي ستتبعه الدولتان في سياستهما الخارجية. ومتى تم ذلك سيكون من الصعب على الليبرالية الأمريكية فرض تصوّرها على الدول الأخرى، كما هو الحال الآن في بعض الدول بالشرق الأوسط . وعبَّر وزير الخارجية الروسي، سيرجي لا فروف، صراحةً عن هذا الأمر في خطاب له الأسبوع الماضي، أمام مجلس الدوما الروسي، قائلاً: إنه ليس من المقبول التصرُّف الأمريكي الذي يتبنَّى نظرية تقضي بحق الغرب في «وضع قواعد في مختلف المجالات، مع التجاهل التام لمبدأ تعددية الأطراف في العالم.. ما يُقوِّض القانون الدولي».