كثيرًا ما تردَّد: (ما أحلى أيَّام زمان) بلهجة لا تخلو من تبرُّمٍ وشكوى من واقع الحال، وحنين لماضٍ على شظفه وضيق ذات اليد للخلاص ولو بوهمٍ من حاضرٍ وخلاص ممَّا هو واقعٌ وسائد! ومع أنَّ البارحة وأيَّام زمانها ولَّت بكلِّ ما فيها وانقضت.. عاشها بعضنا كما عاشها الآباء والجدود، والسلف لعقود وقرون.
(بارحةٌ) من أيَّام وأحداث حفلت بكثير من مشقّة وشظف العيش.. لا كهرباء معروفة، الإضاءة بفوانيس الكيروسين، وماء للشرب من الآبار والمياه الجارية في الأنهر على ندرتها، وما حفلت به من شوائب وحشرات.. فقد كان على أهلنا في الجزيرة العربيَّة السير لعدَّة أسابيع وهم في طريقهم إلى بلاد الشام لمقايضة جمالهم وماشيتهم بمواد الغذاء والكساء.. معرِّضين حياتهم، وما يملكون للسلب والنهب من قطَّاع الطرق.. كلُّ هذا وأكثر، إلى جانب ما ترويه الجدَّات والجدود عن معاناتهم أيَّام (السفر برلك)، والحرب العالميَّة الأولى من قحط وفقر ومجاعة، وتفشِّي الأميَّة بالغالبيَّة منهم.. وهجمات الأوبئة التي قضت على حياة الكثيرين من أهاليهم وفلذات أكبادهم.
(بارحة) أيَّام زمان، على شدَّتها، لم تفقد أهلنا أصالتهم، ولا كرمهم، وهم يتحدَّثون عن تبرُّع أهاليهم بالجنيه الذهبي لتمويل قطار الحجاز الرابط بين المدينة المنورَّة ودمشق.. ومن هناك شمالًا إلى دول أوروبيَّة ناقلًا الأفراد وشحنات الأرزاق والمواد الأساسيَّة للغذاء والعمران.. وما إن اكتمل مدُّ السكَّة الحديديَّة، وتحرّكت عربات القطار فوقها حتَّى نسفته قوى الشر والاستعمار بقيادة ضابط الاستخبارات البريطاني لورنس، لتحول دون التواصل الإنساني والمجتمعي بين أهالي بلاد الحرمين الشريفين وعرب الشمال.. ثمَّ لتحلِّ ويلات الحرب العالمية الثانية التي أوقد نيرانها الغرب، واكتوت بها الشعوب العربيَّة وذاقت الأمرَّين من ضيق ذات اليد وتفتًّت مجتمعاتها.
(بارحةٌ) برهانٌ وشهادةٌ على صلابة شعب أرض صبر وصابر، وكرَّمها الله بجعلها مهبط الرسالة السماويَّة، ومسقط رأس رسوله وخليله.. واليوم بعد مؤسِّسها المغفور له بإذنه تعالى الملك عبدالعزيز آل سعود تولّاه الله بواسع رحمته وأنجاله البررة، خدمة بلاد الحرمين الشريفين وسدنتهما، قد أفاء الله علينا بالخير العميم، وبمنجزات العصر.. لتذكِّرنا إضاءة الكهرباء بفوانيس الآباء والأجداد، وعذوبة مياة الشفَة والشرب والريّ للزراعة والصناعة بالآبار.
حنين للبارحة وأيَّام زمانٍ، لنشكر الله على نعمه، وعلى نشر المدارس والمعاهد والجامعات محلَّ الكتاتيب.. وشبكات الطرق والمواصلات الحديثة وفق آخر تقنية المواصلات لنتذكَّر الجمال التي لم نعد نراها إلَّا ما ندر.. وعن تقنية الاتِّصالات والتواصل الاجتماعي بين الأهل وسكان كوكبنا الأرضي، فحدِّث ولا حرج.
حنين إلى ماضٍ، لا يخلو من ذكريات تظلُّ تراود مخيَّلتنا، لأنَّها جزء من تراثنا وتاريخنا.. فقيمة الأمم والشعوب لا تقاس بما حقَقته فقط! بل كيف حوَّلت الماضي على صعوبته، والمستحيل من يأس إلى رجاء، والمجتمع من مغرقٍ في بدائيَّته إلى واقعٍ متقدِّم ومثالٍ تتبادل فيه الخبرات والمنجزات، ويزخر بوفرة متطلَّبات الحياة الكريمة من طعام وشراب وكساء ورعاية صحيَّة وضمان اجتماعي واقتصاد متين ومكانة مرموقة بين دول العالم.. فهذا هو ما نحن عليه من أمن مملكتنا ورغدها، وقد قيَّضَ الله لها ملكًا وشعبًا يعيش لدنياه كأنَّه يعيش أبدًا، ولآخرته كأنَّه يموت غدًا.. لتظلَّ «ما أحلى أيَّام زَمان» لأبنائنا وأحفادنا مقولة إنجاز وسيرة شعب يستحقُّ حياة على جمالها وبركتها يظلُّ القادم منها حنينًا في الفكر كجني النحل في الفم، وتفاؤل بآتٍ أكثر حلاوة.. و(بالشكر تدوم النعم).