هو الاسم المنسوب إلى الأجزاء المخفية عن العين بقصد أو بغير قصد، وقبل الخوض في موضوعنا أشير إلى قدرات البعض لرؤية الأمور المخفية بأريحية، ومنهم أحد أعز أصدقائي، هذا الرجل هو من كبار أطباء الأشعة، وقد منحه الله نعمة رؤية «المستخبي» بكل يسر في التشخيص الطبي، وفي أمور الدنيا أيضًا. وننتقل الآن إلى عالم دراسات وتخطيط المدن حيث نصف المدن بأسطحها ومن النادر أن ننظر بشكلٍ كاف ولائق لما يقع تحتها.. جرت العادة أن تكون القشور هي الأساس، وأن تكون الأسطح هي مفاتيح الوصف الرئيسة للمدن، طبعًا هذا لا يكفي، فعندما ترى وتصف مدينة مثل لندن، أو نيويورك، أو باريس أو بوسطن على سبيل المثال لا تتخيل الأنفاق، والدهاليز، والخزانات، والكابلات تحت سطحها..
ولا تتخيل ديناميكية الحركة في قطارات الأنفاق التي تحمل ملايين البشر على عشرات المستويات تحت الأرض طوال اليوم.. ولا تتخيل الكابلات والأنابيب الضخمة، ولا بعض مكونات نقل مخلفات الصرف الصحي، وغيرها من البنية التحتية غير المرئية، وهذا البعد الثالث للمدن «المستخبي» يحمل العديد من المعاني ويفسر خبايا الجغرافيا، والتاريخ، بل وحتى مستوى معيشة المدن.
ومن الأمثلة الرائعة على سيرة أهمية العناصر التحتانية، نجد قصص لندن خلال الحرب العالمية الثانية، حيث شكلت منظومة قطار الأنفاق في العاصمة البريطانية مظلة حماية فعالة للسكان من الغارات الجوية القاسية من القوات النازية، خصوصًا في فترة الهجوم الكبرى في صيف 1940، ولكن إن أردت أن تبحث في المفهوم التحتاني الأهم لجميع مدن العالم، فعليك بالنظر إلى القدس الشريف، هذه المدينة الرائعة غنية بالتاريخ، لدرجة أن التهافت على كنوزها التراثية لم يهدأ منذ مئات السنين، وفي البداية كانت محاولات استكشاف تلك الكنوز من خلال آليات علم الآثار وأهمها الحفر، وبيت المقدس التاريخية مدينة مساحتها السطحية صغيرة، لا تتجاوز التسعمئة ألف متر مربع.. ما يعادل مساحة حوالي مئة وستة وعشرين ملعب كرة قدم.. لكن تحت المدينة هناك طبقات من البناء كل منها يحكي تاريخًا أهم من تاريخ مئات المدن، وفي بداية حملات الاستكشاف التاريخي، كانت معظم الجهود أوروبية، بهدف استكشاف أو توثيق تاريخ الإنجيل والمنشآت الدينية.. وبعدها بنهاية القرن التاسع عشر شهدت المدينة الحملات الدينية الغربية التي هدفت إلى التوسع في الاستكشافات، ومنها على سبيل المثال؛ تأكيد الموقع التاريخي لكنيسة القيامة، وهي أهم الكنائس في الديانة المسيحية على الإطلاق، وللأسف أن مع مرور الزمن، وتحديدًا في عام 1838، أصبح النشاط «تحتانيًا» بالفعل عندما بدأ الاهتمام يتحول إلى ساحة المسجد الأقصى المبارك.. أو بالأصح ما هو تحت ساحة المسجد.. فظهر الاهتمام بالمعبد اليهودي المزعوم؛ وأن موقعه تحت ساحة المسجد الأقصى، وللعلم بادر علماء الآثار الإنجليز بذلك، ففتحوا المجال للصهاينة المهتمين عبر التاريخ، وخصوصًا بعد سقوط القدس التاريخية تحت سيطرة كيان الاحتلال في يونيو 1967، ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم توالت المحاولات لزعزعة قواعد المسجد الأقصى بسبب الحفريات المستمرة، علماً بأنها تخالف جميع الأعراف الحضارية، والعقائدية، والإنسانية.
* أمنيــــــــة:
كانت ممارسة «الحقائق على الأرض» الصهيونية التي ركزت على اغتصاب الأراضي؛ هي إحدى أهم ركائز سياسة التهويد، ولكن سياسة العمل «التحتاني» لا تقل أهمية عنها.
أتمنى أن نؤكد على سياسة الاعتراض على اغتصاب أراضي القدس، وعلى رأسها المسجد الأقصى، شاملاً قبة الصخرة وقبة السلسلة، وحائط البراق، وكامل مكونات ساحة الأقصى، هذه التجاوزات لا تُرضي الضمير بأشكاله وألوانه المختلفة، والأهم من ذلك أنها لا تُرضي الله عز وجل، وهو من وراء القصد.