يرى (ابن رشد) أنّ الدّين لا يتعارض مع العقل، وأن سدّ باب التفلسف جهلٌ فاضح، وصدٌّ عن باب من الأبواب التي توصل إلى معرفة الله حقّ معرفته، وكانت تغلب عنده الدِّراية على الرواية، أي العقل على النّقل.. وكان (ابن خلدون) من أوائل من دعوا إلى إِعمال العقل في الخبر، ويقصد الأخبار والحوادث والقصص التاريخية.. وبهذا، يتبيّن للعاقل زيف وتحريف وكذب كثير من أخبار التاريخ، فضلاً عن الشكّ في مصداقيّة نقل الرجال عن الرجال.
ومن أهمّ قدرات العقل التي تعطّلت لدى كثيرٍ من الناس، القدرة على التعرّف على الكذب والأوهام، وما يناقض المنطق السليم، ومن هنا، سمحوا للأساطير والدجّالين وكثيرٍ من رجال الدّين، باحتلال عقولهم وتعطيل تدبّرهم.. وقد وقع العقل في مآزق نتيجة مواقفه المُتعصّبة والتقليدية الموروثة دون تمحيصٍ ولا مراجعة، وتورّط في حرجٍ كبير تسبّب فيه مبدأ تقديم النقل الخالص على العقل المُستنير والتراكم المعرفي.
يقول الفيلسوف (الكِندي) عن فضل العقل: «من أدرك طريق الحق فليكثر مُساءلة الحكماء ومشاورتهم، وليكن أوّل شيء يسأل عنه العقل، لأن جميع الأشياء لا تُدرك إلا بالعقل»، وكان يرى أنّ الفلاسفة هم الجديرون بوراثة الأنبياء واتّصال علمهم، وأنّ التعارضَ بين الفلسفة والدّين تعارضٌ مزيّف أوجده رجال الدّين ممّن كانوا يكرهون كلّ شيءٍ يتماشى مع العقل.. وأورد الإمام (أبو حامد الغزالي) في كتابه «إحياء علوم الدين» بياناً في شرف العقل وفضله، منها ما ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اكتسب رجلٌ مثل فضل عقلٍ يهدي صاحبه إلى هدى ويردّه عن ردى، وما تمّ إيمان عبدٍ ولا استقام دينُه حتى يكمل عقله»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لكلّ شيء آلة وعدّة وإنّ آلة المؤمن العقل.. ولكلّ شيء دِعامة ودعامة الدّين العقل».
يبدو أنّ المشكلة تكمن في السّماح للعقل بتعلّم أقلّ القليل ودون فهم التفاصيل، ثمّ الزّج به خاضعاً في خطوط الإنتاج اليومي كترسٍ صدئٍ طائعٍ في آلة هائلة، مع تخديره ببعض المُتع المادّية من أجل إيهامه بالحريّة والسّعادة.. إنّ البشر لا يتصرّفون عادة من مُنطلق العقل والمنطق، بل من مُنطلق الغرائز، والمصالح، وهذا مما جعل عورة العقول أكثر انتشاراً وظهوراً من عورة الأجساد.. يقول (ديكارت): «العقل أعدل الأشياء توزّعا بين الناس.. ولا يكفي أن يكون للمرء عقل، بل المهمّ هو أن يُحسن استخدامه».