Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

من ملتقى قراءة النص.. إلى قراءة نص السريحي

A A
ينتهي اليوم ملتقى قراءة النص، الذي اختار منظموه في نادي جدة الأدبي أن يكون حضورياً، ليمثل إعلان مقاومة ثقافية في وجه الوباء والبعد.. وكعادته يمثّل (شيخ الملتقيات) نافذة ثقافية جميلة، وفرصة سنوية سانحة للقاء الزملاء من المثقفين والمثقفات، والوقوف على اهتمامات الباحثين والباحثات وتطورات البحث في الدراسات الأدبية والنقدية.

وكعادتي أحرص على المشاركة في الملتقى سنوياً لأنه أصبح تقليدًا ثقافيًا راسخًا في المشهد الثقافي المحلي والعربي، وموعدًا ينتظره المثقفون والمثقفات والباحثون والباحثات لما يتمتع به من سمعة علمية وثقافية، جعلته في رأيي أحد أهم الملتقيات الثقافية المحلية وأبرزها. يمكن أن أضيف أن أحد عوامل استمرار الملتقى ونجاحه المستمر يكمن في الهاجس المتجدد في التغيير باعتباره سنة الكون الأكثر ثباتًا، والمحاولة المستمرة لمواكبة التطورات الثقافية والاجتماعية، ورصد الظواهر الأدبية وغير الأدبية المشكلة لكامل الصورة الثقافية محليًا وعربيًا.

تشهد للملتقى أجيال من الباحثين والباحثات الذين احتضنهم وأسهم في إنضاج تجربتهم النقدية والأدبية، وأنا أحد أولئك بلا شك، كما يشهد له أرشيف الأوراق والأبحاث العلمية المكتنز بشتى أنواع الدراسات الأدبية والثقافية والنقاشات العلمية الجادة التي شارك فيها عبر السنين كبار نقاد العربية ومثقفيها.

وقد اخترت هذا العام تجربة ناقدنا الجميل سعيد السريحي الذي كان عنصراً فاعلاً في مرحلة التحولات الثقافية والاجتماعية التي كان من نتائجها صراع الحداثة الشهير.. حضر السريحي بوصفه شاعراً، وناقداً، وصحفياً، وخصماً من كبار الخصوم.. خلال مسيرته الممتدة، قدّم السريحي رؤيته الخاصة بمفهوم ووظيفة الشعر الحديث، وذلك من خلال مقالاته وحواراته الصحفية، وأبحاثه وكتبه، ومن خلال نصوصه الشعرية التي نشرها في الصحافة المحلية عبر السنين.. لطالما عدّ السريحي، وبقية نقاد الحداثة الشعر الحديث، تعبيراً صادقاً عن تحولات حياة الإنسان الحديثة وتعقيداتها، في أحد أعداد مجلة عبقر يصرّح السريحي بأن «القصيدة هي الوريث العاق لآبائه رغم ثراء الإرث الذي تركوه له، وهو الابن المتنكر لنسبه رغم أنه ما كان له أن يوجد لولا دم أولئك الأجداد الذي جرى في عروقه».. من هنا يرى أن «القصيدة ليست ما يكتبه الشاعر بل هي ما يمحوه، ليست ما يبنيه إنما ما يقوضه».

تتضح من هذين التعريفين ملامح الشعر كما يتصورها -وكما يصورها- السريحي؛ القصيدة الحديثة تنتمي لزمن التقويض، ذلك الذي يعني أن كل بناء جديد لا يكون -بالضرورة- ممكناً إلا عبر نقض بناء سابق، وليس من الصعب تلمّس أثر جاك دريدا هنا، وخصوصاً مقولته المركزية حول ميتافيزيقا الحضور.

ومن هنا كانت «الحافةُ» المكانَ الذي يتموضع فيه الشعر الحديث، فتجربة النص الجديد تنتمي للحافة، كما يعبر السريحي في مقال بمجلة «النص الجديد»، وجِدّةُ النص تعني ضرورة «انتمائه للحافة»: «وحينما يكون النص انتماء لهذا الحضور والوعي والوجود والمغامرة والمقامرة يكون لصيقاً بالتجربة الإنسانية، بالتجربة كما نحياها، يكون نحن في مواجهة العالم».. وإذا كانت «مهمة الشعر -كما يعبر السريحي- هي البلوغ بالأشياء إلى غاياتها، واستقصاء ما يمكن أن تنتهي إليه من آفاق».. فإن على الشاعر «أن يكتب الشعر بإحساس من يرتكب جناية، أن يقول ما لا يقال، ويفعل ما لا يليق به أن يفعله فتكون قصيدته إعلاناً لوجوده باعتباره كائناً فرداً في مواجهة العالم».

هكذا تتضح معالم مفهوم «الشعر» عند السريحي، حيث تشكّل الحريةُ المطلقة والنقضُ والتجديد والتجريب واستغلالُ ما في اللغة من طاقات عناصرَ الوصفة التي تقود شاعر العصر نحو عالم القصيدة الحديثة؛ هذه القصيدة تتحدى الموت، وتقف في وجه النسيان، القصيدة التي تتوّج شاعرها فرداً متفرداً، لا رقماً في طابورٍ من الأشباه:

نريدها أمة لا قائل قائلها

حسب الأوائل ما قالوا وما نشروا


contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store