«أنتِ منقوشة في خطوط السقف
أنت منقوشة في أعماق.. أعماقِ العاصفة».
هذا مقطع من قصيدة نشرتها فتاة في مدونتها الخاصة.. ثم سألت قراء مدونتها: «أخبروني إن كنتم تعتقدون أن روبوتاً (إنسان آلي) يمكن أن يكتب هذه القصيدة؟!». والقطعة الشعرية فعلاً من إنتاج نظام آلي، أي أنها قصيدة روبوت.. وفي جامعة أسترالية طوّر مجموعة من الباحثين برنامجاً معتمداً على الذكاء الصناعي، يستطيع تأليف الشعر، بطريقة ذكية جداً، تجعل التفريق بين نص الروبوت، ونص الإنسان أمراً صعباً.
يطلق على هذا النوع من البرامج (بوتبويت- Botpoet) أي الشاعر الروبوت.. والعجيب في البرنامج (الآلي) أنه يتبع قواعد الشعر: الوزن، القافية، الانزياح، الصور الفنية والاستعارات، كما أنه شعر يفيض بالعاطفة متى أردت له أن يفعل. هذه البرامج قادرة على خداع البشر ليعتقدوا أن قصائدها كتبها إنسان بدلاً من آلة. ويشير موقع من المواقع المهتمة بهذه الظاهرة إلى تجربة ذات دلالة في هذا السياق، حيث أرسل برنامج إلكتروني قصيدة لمجلة شعرية معتبرَة، فنشرتها المجلة، دون أن تدري أن كاتبها روبوت، وفي تصويت بين متخصصين، تساوى الرأي مناصفة بين من يعتقدون، ومن لا يعتقدون، أن صاحب النص شخص آلي.
ليس الأمر مجرد تجارب بالمناسبة، بل أصبح واقعاً، حتى أن شركة قوقل وفرت -قبل سنين- ضمن تطبيقاتها المختلفة خدمة قوقل الشاعر (AI V2V)، وهو عبارة عن برنامج ذكاء صناعي استحدثته قوقل للمساهمة في كتابة الشعر، عن طريق تزويد التطبيق ببعض البيانات، والمدخلات، والنتائج عجيبة ولافتة في الغالب، من هنا رأى الصحفي مايك ويننر المهتم بالذكاء الصناعي وتفاعلاته العاطفية، أن هذا «إنجاز رائع ومثير للإعجاب»، لأنه رأى أن الروبوتات، حين تسيطر على البشر لاحقاً، «يمكنها أن تكافئنا ببعص الشعر الجميل أحياناً».
وكنت قد تساءلت في أكثر من محاضرة ولقاء علمي ما إذا كنا متجهين لما يمكن أن ندعوه (شعرية رقمية)، ولعلنا لو نظرنا للشعرية بوصفها ذلك «الفرع من اللسانيات الذي يعالج الوظيفة الشعرية في علاقاتها مع الوظائف الأخرى للغة»، كما يعبر ياكبسون، في حين يؤكد تودوروف، أن «موضوع الشعرية ليس الأدب في حد ذاته، بل خطاب الأدب، أي أن الشعرية تستنطق «خصائص هذا الخطاب النوعي، الذي هو خطاب الأدب»، فيمكن أن نخلص إلى نتيجتين: أولاهما أن النظرة البنيوية تجعل من الظاهرة الأدبية نسيجاً من العلاقات المعقدة، وثانيهما أن النظر للغة بوصفها نظاماً من العلامات (الإشارات) يعني أن الفكر الإنساني فكر رمزي، إلى حد بعيد، والرمز في إحدى حالاته شفرة (كود)، يترجمها العقل إلى معنى (دلالة).
وبهذا المعنى حين نفكر في البرمجة (بوصفها لغة تقنية حاسب-آلية) من المفترض أن نتذكر أنها تتسق في الأساس مع بناء وعي صانعها، (الآلة والإنسان وجهان لرمزية واحدة). وهكذا بوضعنا للشعرية النقدية، وبالنظر إلى شعرية المكان (باعتباره نتاج خيالنا عن المكان الأليف، وثقتنا في العالم كما يعبّر باشلار) فإن شعرية الرقم قد تعني مرحلة جديدة من مراحل النظرية؛ إذ هي شعرية تنطلق من (علمية الرقم)، وصدقه، وتداوليته، ورمزيته المكثفة في المخيّلة الإنسانية.. هذا يعني أننا إزاء تجربة جديدة، ومتجاوزة.. قد تعني -بشكل أو بآخر- أن نقرأ المعادلة الرياضية، بنفَس سطر شعري، فنستخلص ما يكتنفها من جمالية، تجعلنا نفكر، ونتأمل.. ونقول ونحن نلامس جوهر الأشياء من حولنا: الله.
أحد كتب كاثرين هيلز -الناقدة والباحثة الأمريكية في الرقميات ومستقل الإنسان- عنوانه: (My Mother Was A Computer- أمي كانت حاسوباً)، تشير إلى أن أمها عملت منذ 1930-حتى 1960.. في وظيفة مهمتها عمليات الحساب. تصف هيلز ذكرياتها عن تحول أمها (عبر علاقة ممتدة مع الأرقام) إلى كائن مختلف (نسيجٍ من الجسد البشري والأرقام)، قد تشير الأرقام هنا إلى الروح، إلى الماوراء (ما وراء الجسد)، إلى الجزء الميتافيزيقي للإنسان، إلى الرقم المخبوء خلف الكتابة.
ولعله من المفيد أن ألم شتات ما قلت من أفكار مبعثرة حتى الآن بالإشارة إلى تلخيص جميل حمداوي لأهم سمات «الكتاب الرقمية»، وهو ما قد يعني في الوقت ذاته معالم شعرية جديدة، أدعوها تجاوزاً (شعرية الرقم)، هذه الشعرية -كما يحدد حمداوي- رقمية: تكتب على الحاسوب والأجهزة الإلكترونية، وهي شذرية بطبيعتها، فتكون مقاطع طليقة، وهجينة متداخلة الأنواع، منصهرة في بعضها، كما أنها شعرية مشفرة (مبنية على نظام للتشفير البرمجي)، أوتوماتيكية خاضعة للتحكم الذاتي للآلة، وهي بذلك ذات طبيعة ديناميكية مرنة، متحركة، متغيرة على الدوام، وهذا ما يجعلها تشعبية لا خطية النسق، منفتحةً على نصوص وعوالم ونوافذ لا حصر لها، كما أنها ترابطية معقدة عن طريق الروابط، والعقد، والعلاقات الداخلية والخارجية، وهي كتابة سمعية/ بصرية تعتمد على العلامات اللغوية وغير اللغوية، ولعلها تمثل التناصية في أوسع صورها انفتاحاً.
وإن كنت قد بدأت المقال بنوع متطور من أنواع الشعرية الرقمية، أعني شعر الروبوت، فإن هناك أنواعاً تفاعلية من الأدب، لا تزال سطوة الإنسان عليها أقوى -نوعاً ما- من ذلك مثلاً: (الشعر البصري الرقمي، النص الجمعي Collective Text، رواية الواقع الافتراضي، النص المتشعب hypertext، الرواية التفاعلية (interactive fiction)، السايبربنك (cyberpunk)، الشعر التوليدي (generative poetry) والنص الشفري (codework) وغيرها.