صيحات وموجات حماسٍ تتلاطم؛ يتقافز الطلاب على بعضهم، يصرخون.. يهنئون، يرتدون ملابس ظرفة، ويتحدثون بعدة ألسن؛ بعضها فصيح، وكثير منها يستريح.. المشهد مشهدُ فرح؛ موسيقى، وكوميديا، وتماهٍ بين المسرح وجمهوره؛ أمواج الجماهير تزحف على الخشبة، والخشبة تستقبلهم بحبور.
هكذا قضينا أسبوعنا في جامعة المؤسس الملك عبدالعزيز، حين احتفلنا يوم الأحد بختام مهرجان المسرح الذي امتد لثمانية أيام مكتظة بالفن والعمل والتنافس الجميل.. من يعيش الأجواء التي عشناها لا يمكن له إلا أن يحلق معها بسعادة، وهذا ما يفعله الفن دوماً؛ يجمعنا على ما نحب، ولا يفرقنا. قيمٌ ومواهبُ خلاقةٌ ورسائلُ إنسانية تأخذ المشاهد والمشارك إلى معاني الحضارة الأرقى، قلت سابقاً: إن من أجمل وظائف الفن أنه يكشف للبشر جمال صنع البشر؛ جمال الحضارة.. الفن رسول الحضارة الإنسانية الصادق والأمين.
بدأنا الأحد، وانتهينا الأحد الذي يليه؛ كل يومٍ مسرحيةٌ أو اثنتان، تقدمها كلية من كليات الجامعة، بإشراف فناننا القدير خالد الحربي.. المسرح الجامعي تاريخ جميل من الطموح والإصرار، أقول هذا وقد كنت محظوظاً لأكون عضواً في لجنةِ تحكيمٍ فيها عبدالله باحطاب (عراب مسرح الجامعات)، والدكتور نعمان كدوة؛ أيقونة المسرح الجامعي بالمملكة العربية السعودية.. جاء المهرجان مواكباً ليوم المسرح العالمي بطبيعة الحال، وبجهد مميز من عمادة شؤون الطلاب بالجامعة؛ وأخص بالذكر صديقي د.عبدالعزيز العماري وكيل العمادة للأنشطة الثقافية، وبندر باغانم مدير الأندية الطلابية، ومهندس المهرجان.
وكانت المسرحيات صدى جميلاً لصرخة الفن السامية؛ قضايا اجتماعية وإنسانية مختلفة طرقتها المسرحيات، وعمل دؤوب على الإخراج والأداء والديكور والأزياء. فازت كلية الآدب بجائزة أفضل عرض من إخراج محمد بالبيد، وبرز الطالب عمر الغوينم ليحقق جائزة الممثل الثانية، أما محمد لادان (الفنان الفنان) فقد أذهل الجميع بأدائه الناضج.
ابن الإعلام وطالبها محمد جعيد يؤلف ويخرج مسرحية رمزية جميلة بعنوان (زجاج)، تناقش صراع الإخوة، وتشير إلى أبعد من ذلك. إحسان وحسان وغريب، شخصيات حية ومؤثرة، تشربت الأدوار فكان إحساسنا بها عالياً، لكن إحساناً حصد جائزة أفضل ممثل في المهرجان (أدى دوره الطالب أحمد أبو خشبة).
الإعلام الجديد كان حاضراً بتأثيره على المجتمعات، وزلزلته للقيم الاجتماعية، كما لا حظنا في مسرحية (شيزوميديا)، وناقش موسى البركاتي ورفاقه من كلية الحاسبات -في مسيرحية إنفلونزا...ر- قضايا الشهرة، ومشكلات المشاهير. أما مسرحية (الممر) لكلية الدراسات التربوية فقد حملت فكرة مدهشة لمأزق البرزخ، استحق عليها د. أشرف زيدان جائزة أفضل نص، كما اختطف دكتور الهندسة وابن المسرح العريق هاشم فلاتة جائزة السينوغرافيا عن مسرحية (مستر واو)... (واو) هذه تشير إلى ما تعرفونه سلفاً، لكن واواً أخرى شكّلتْ ردّ فعل الجمهور على عرض كلية الهندسة، وكذلك ملأت مسرحية (مع أحلامي) لكلية السياحة قلوب الحاضرين بخضرة الوطن، بينما قدم طلاب كلية الاقتصاد مسرحية (حظر كلي) التي ألقت الضوء على مأزق الإنسانية في كورونا (مجموعة شباب يجدون أنفسهم محبوسين في فندق السعادة حينما يُعلن الحظر الكلي بسبب كورونا.. فكرة مذهلة، أليست كذلك!!).
مسك الضحك كان في عرض طلاب معهد اللغة العربية للناطقين بغيرها، وقد أبدع د. محمد الجراح في كتابة نص يعتمد على اصطياد لحظات الإحراج والمفارقات الطريفة لطلاب المنح حين يدلفون لأول مرة إلى عالم جديد عليهم، هو عالم المملكة العربية السعودية؛ بالنسبة لي ضحكت كما لم أفعل منذ زمن على ما شاهدته في مسرحية (كسر الحاجز) التي كان أبطالها من طلاب المنح غير العرب من أصقاع إفريقيا وآسيا. الروح يا جماعة الخير..
الروح ليلة الحفل الختامي وتوزيع الجوائز تقول الكثير والكثير؛ حين تعلن جائزةٌ ما يفرح بها الجميع، من فاز ومن لم يفعل... الطموح الجميل، وطيب الخاطر، وابتسامة الرضا، تلك التي لم تغادرنا منذ بدأ أسبوعنا في مهرجان المسرح.. حتى أنهيناه بكرنفال الود والجمال.