من حكايا جدَّتي -يرحمها الله- اشتدَّ في قديم الزمان الفقر والفاقة بين الناس مع القسوة وعسف الذين تسلَّطوا على حكم البلاد والعباد من عديمي الضمير والأخلاق ومدِّعي المذهبيَّة والطائفيَّة، فغادر العديد من الأهالي بلدانهم مهاجرين إلى العالم الجديد أملًا بعيش كريم.. وقد نقلتهم سفن شراعيَّة كان قد بُدأَ بتسييرها من موانئ البحر الأبيض المتوسِّط إلى موانئ القارَّتين الأمريكيَّتين في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين.. وكانت الرحلة تستغرق قرابة الشهر، وفيها قضى المهاجرون أيَّامهم في خوف وهلع من أن يبتلعهم البحر، حتَى رسوِّها الميناء المقصود، ونزولهم إلى اليابسة واستقبالهم ممن سبقوهم في الهجرة، وانتقلوا إلى منازل مستقبليهم ضيوفًا إلى أن تتيسَّر لهم سبل العمل.
ومن مضيفهم، عرفوا أنَّ ألوفًا من مهاجرين بريطانيِّين وأوروبيِّين كانوا قد سبقوهم في الوصول.. منهم أدباء وعلماء ورجال مال واقتصاد وسياسة وإعلام إلى جانب شذَّاذ الآفاق وتجَّار المخدَّرات وقطَّاع الطرق ومتسوِّلين وهاربين من العدالة في بلدانهم.. وبسلاح حرَّاس هؤلاء، وضع منظِّمو الرحلات اليد على العديد من المزارع والحقول الشاسعة بعد معارك دامية مع مالكيها من سكَّان البلاد الأصليِّين الذين احتقارًا لهم واستخفافًا بهم أطلقواعليهم اسم (الهنود الحمر) وكذلك على مَن كان قد سبقهم من مسلمي حوض البحر الأبيض المتوسِّط.
ومن الوثائق المؤكَّدة، فقد استعان هؤلاء الغزاة بتجَّار الرقيق، لتأمين العمالة الأفريقية للأعمال الشاقَّة، وفلاحة الأراضي المنهوبة.. وتولَّى الطامعون منهم الحكم إرساء لقواعد دولة عنصريَّة يسود فيها الجنس الأبيض، ويُحكم فيها الملوّنون عبيدًا.. يبدو أن أحفاد أولئك المستعمرين الأوروبيِّين قد حملوا جينات جدودهم، فمنهم الصالح والطالح والتقي والفاجر، يديرون سياسة بلدٍ استولوا عليها ظلمًا وإثمًا وعدوانًا، وامتدَّت سيطرتهم لفرض حكَّام كلًّا على بلده سخَّروا موارد أممهم وشعوبهم المغلوبة على أمرها لصالحهم، فارضين عملة التبادل التجاري العالمي الدولار الورقي المطبوع بدون تغطية ذهبيِّة، أو أيِّ معدنٍ ذات قيمة.. وهيمنوا تباعًا على صندوق النقد الدولي، وبالتالي على الاقتصاد العالمي.. تمَّ لهم ذلك بالإكراه والعدوان، وبإثارة النعرات المذهبيَّة والفتن الطائفية بين الشعوب كافَّة، والعربيَة والإسلاميَّة خاصَّة ليتقاتلوا فيما بينهم بأسلحة حرب دمار أمريكيَّة لإنعاش مصانعهم الحربيَّة.. فلم تسلم من عدوانهم المسلَّح أيَّة دولة في العالم على مدى المئتي سنة ويزيد من عمر الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
ومن الشواهد التاريخيَّة وسجلِّ الإنسانيَّة، لا دوام لحالٍ ولا بقاء لحكم أو نظام يعارض طبيعة الحياة وسنَة الكون.. وليس من غرابة أو عجب أن قال الأقدمون: (ما طار طيرٌ وارتفع إلَّا كما طار وقع!) وحقًّا: (لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصان) فعنصريَّة أمريكا وإجرام قادتها في طريق إلى زوالٍ عاجلًا أو آجلًا.. والله جلَّ وعلا خير القائلين: ﴿وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس﴾.