.. للوطن معنى فلسفي عميق يبدأ من الإنسان وينتهي بالمكان..
الوطن ليس مجرد تراب، وليس بمقدار مساحة وحدود جهاته الأربع..
الوطن أكبر من ذلك بكثير.. الوطن يسكن داخلك قبل أن تسكن أنت داخله.
وهذا هو المعنى الحقيقي للحب والإعمار...
*****
.. لا يهم أين أعيش؟ وكيف أعيش؟
بقدر ما يهم الارتباط الروحي والعاطفي بالمكان الذي أعيش فيه.. ولا تلام تلك المسنة التي انتشلها أمير عسير من بيت الحجر المهدم ومن معاناتها في أدغال تهامة وأسكنها قصر الإمارة..
إن شعرت بالحزن، فالمكان روح مهما كان..
وقصة ميسون الكلبية زوجة الخليفة معاوية بن أبي سفيان، التي فضلت عيش الخيام والبداوة على قصور دمشق، «وبيت تخفق الأرواح فيه أحب اليّ من قصر منيف» كنا نقرأها في كتب المطالعة كقصة عابرة ولكنها في حقيقتها تمثل الارتباط العاطفي بالمكان، بعيدًا عن ماهيته والتفاضل عليه...!!
*****
.. بهذه القيمة الروحية للوطن يكون الإعمار..
والذين يسيئون في إنمائه فإنهم يعانون من خلل في هذه القيمة..
وفي المقابل أيضًا فإن الإرهابيين الذين يفجرون أوطانهم، ويدمرون المقدرات والمكتسبات فإنهم يهزمون في دواخلهم روحهم الوطنية قبل أن ينتصرون لفكرهم المؤدلج المتطرف..!!
*****
.. لا أحد على الإطلاق يملك روحًا وطنية ويسعى في دمار وطنه، أو يقبل بمن يسيء له أو يعبث به. ومن يتعدون على مصالح أوطانهم أو يلحقون الضرر بها فإن أولئك تحركهم لعبة الكراسي حتى وإن تبجحوا بحب الأوطان.
يقول غاندي: «كثيرون حول السلطة، قليلون حول الوطن».
وهذا هو السر لما يحدث حاليًا في الكثير من الأوطان العربية..
لعبة الكراسي تمزق ليبيا والسودان.. ولعبة الموالاة تحرق العراق ولبنان واليمن وسوريا..!!
*****
.. والمشكلة أنهم كلهم يتخذون الوطن ورقة مزايدة، وكلهم يدعي وصلاً بليلى، والحقيقة إن الوطن مات في أرواحهم، وبقيت فقط الدمى والشعارات الجوفاء...!!
*****
.. ومع موت الوطن في داخل الإنسان العربي أصبح من السهل قبوله باختراق الأوطان وباحتراقها، بل وباستعداء الأعاجم عليها، وأتذكر (هنا) تلك المقولة: «عندما يستباح الوطن، يستباح كل شيء وتصبح الدنيا سوق كبيرة للنخاسة، فيها الإنسان أرخص من تراب الأرض»..!!
*****
في هذه المرحلة نشكو الضعف والتمزق والهوان ، والسبب اننا قد شيطنا في دواخلنا حب الاوطان ، ولكي نستعيد اثماننا الحقيقية يجب أن يسكن المكان الإنسان قبل أن يسكن الإنسان المكان، بمعنى آخر انتماء روحي للوطن، فهنا تكون القيمة والمهابة.. عسكرة الروح قبل عسكرة العسكر..
ولو أعاد الإنسان العربي صياغة ولاءاته الوطنية وقيمه الروحية لتغيرت الكثير من المفاهيم والأحوال..!!