مما لاشك فيه أن للدراما التلفزيونية على مر السنين تأثير كبير في تشكيل الوعي الإنساني وتوثيق الحياة الاجتماعية ومعالجة المشاكل اليومية وطرح واقعي للحياة اليومية في كل مجتمع من المجتمعات.
ارتبطت حياتنا بشكل أو بآخر منذ دخول التلفزيونات للبيوت بأن يكون المسلسل اليومي جزءًا من حياتنا الأسرية، مازال عالق في ذاكرتي منذ طفولتي المبكرة مسلسل (إلى أبي وأمي مع التحية) في الدراما الكويتية التي كانت تعالج المشاكل الأسرية وعلاقة الوالدين بأبنائهما وكانت بداية بزوغ نجم وتألق المبدعة هدى حسين الفنانة الشاملة التي استطاعت أيضًا ولوج عالم الأطفال ومسرح الطفل، هذا العام تألقت في دور الأم بعد أن كانت في ذلك المسلسل الابنة ورغم الهجوم الإعلامي الكبير على مسلسلها منذ عرض الإعلان الترويجي الأول له ولكنها بقيت هي الرقم الصعب في حضورها وتميز طرحها، ومنذ زمن طويل لم أعد أتابع مسلسلات خليجية إطلاقًا لتشابه الموضوعات التي تدور في فلك واحد، لكن حقيقة الأداء العالي للنجمة هدى حسين جعلني أنهي هذه القطيعة ولم أندم إطلاقا لكل دقيقة قضيتها وأنا أتابع الشخصيات وتجسيد تنوع البشر في بيت واحد وتحت سقف واحد ومن عائلة واحدة ليؤكد فكرة تدور في رأسي منذ زمن طويل بأن شخصية الإنسان وتوجهه في حياته وسلوكه وقناعاته هي تركيبة بشرية عجيبة كل منا له نظرته للحياة وطريقه الذي اختاره ليكون نهجه الذي يعيش به بين الناس، الأم والأب يربيان على مجموعة من القيم والمبادئ ويزرعان المعتقدات ولكن العقل البشري هو الذي يختار في النهاية أي الطرق ليسلكها.
الأداء العالي للممثلين كان مبهرًا وممتعًا ويستحق الإشادة والتقدير فتحية لمن يحترم العقل العربي ويلامس حياته اليومية بعيدًا عن التزييف أو الافتعال أو التفاهات وتضييع الأوقات في التقليد الممقوت والاستهزاء بالآخرين لنتعلم كيف يكون الفن له رسالة وغاية ومعالجة للواقع.
أما الدراما المصرية فلقد توقفت كثيرًا عند عمل إبداعي مختلف عن كل الدراما العربية وحقق السبق الرمضاني بلا منازع واستقيت منه عنوان مقالي عن واقع يصنعه الخيال للفنان والكاتب والعبقري عبدالرحيم كمال، من أجمل ما شاهدت وتابعت مسلسل (جزيرة غمام) تجسيد مبتكر للصراع بين الخير والشر وحوار راق يخاطب الروح والعقل والفكر بطريقة غير مسبوقة وحالات من التجلي الروحاني التي لم يتطرق للخوض فيها أحد من قبل في حوارات عرفات والاسم تم اختياره بعناية فائقة، ذلك الرجل العارف لمكنونات نفسه وعلاقته بربه ومحاولات مستميتة للتغلب على شيطان نفسه والاشتغال عليها لترتقي في ملكوت الله وعدم الاغترار بالنفس وأننا مهما بلغنا من العلم فنحن جاهلون ومقصرون ولا يدعي العلم الكامل إلا الجاهل الناقص وعن سر الأسرار في كل ما يثار حول الشخصية التي حيرت الجميع لخصها الكاتب المبدع وأوصلها الفنان المتميز أحمد أمين في كلمتين: كله منه، إنه الله جل في علاه من يلهم النفوس تقواها ويزكيها ولا يزكي أحد نفسه أبدًا، كل حوار يدور في أحداث المسلسل ويكون عرفات طرفًا فيه يستحق المشاهدة مرات ومرات ففيه الكثير من الدروس والعبر التي تستحق التأمل لنصل لحالة من التسامح والرقي والبعد عن كل منغصات الحياة عندما ننشغل بإصلاح العلاقة بيننا وبين الله ومن ثم ترتقي علاقتنا بكل ما يحيط بنا وحتى نتغلب على شيطان يكيد بنا في كل وقت وحين وما أروع أداء الفنان القدير طارق لطفي الذي كان يجسد شخصية خلدون الشيطان الخالد المخلد والذي لا يموت سيبقى ما بقيت الحياة وهو رسول العداوات والتفرقة والشر بين البشر والسعيد حقًا من استطاع التغلب على شيطان نفسه فإن كيد الشيطان كان ومازال ضعيفًا. عمل إبداعي يحكي واقعًا وصنعه خيال مؤلف يؤمن بأن للكلمة سهام لا تخطئ تستقر في عقولنا وقلوبنا وتسكن أرواحنا تحية للفن المصري وللدراما المصرية الهادفة.
ويبقى مسلسل (الاختيار) التوثيقي لمرحلة تاريخية مصيرية في التاريخ المصري الحديث وكيف استطاع الجيش المصري مواجهة طوفان التطرف وحركة الإخوان المسلمين الإرهابية والتي استطاعت أن تصل لسدة الحكم وتلك الأيام الصعبة التي مرت بعد تعب شديد ويقظة من رجال الأمن في كل القطاعات العسكرية وكيف تضافرت الجهود من أجل حماية الأراضي المصرية والشعب المصري من حرب أهلية كانت على وشك الحدوث وأبدع الفنان ياسر جلال في تجسيد شخصية الرئيس عبدالفتاح السيسي في كل تفاصيلها حتى في نبرة الصوت ولغة الجسد بشكل فاق كل التوقعات. وليبقى التاريخ واقعًا نعيشه لابد من كتابته والتغني بأمجاد الجنود الأبطال البواسل الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه والأوطان دومًا هي العرض الذي ندافع عنه بكل ما نملك وكل منا على ثغر من الثغور مهما اختلفت الأدوار يبقى الوطن دومًا شامخًا عزيزًا.