اجتمعنا حول الشعر في دارين، وليس جديداً أن يجمعنا الشعر، فلطالما فعل.. ليس جديداً -أيضاً- أن تجمعنا دارين، فقد فعلت سابقاً، ولا تزال؛ هذا مهرجانها الشعري الرابع، ينظمه أدبي المنطقة الشرقية برئاسة الجميل قلباً وقالباً محمد بودي، ويرافقه شباب يرفع الرأس، ويبعث على الفخر؛ بدر الحارثي، ومتعب الغامدي، ومنيرة الهاجري، وآخرون... كانوا كالشِعر بهاءً وسخاءً.
كرَّم النادي في حفل افتتاحه كلاً من عبدالعزيز بن حسن الجبر أحد مؤسسي صحافة الأفراد في المملكة العربية السعودية والمكتبات الأهلية، والدكتور علي بن عبدالعزيز الخضيري وكيل وزارة الإعلام سابقاً، والدكتور عبدالله بن صادق دحلان عضو مجلس الشورى السابق، استحقوا التقدير والتكريم نظير ما قدموه خلال عمر مديد لثقافة الوطن وإعلامه. جمعنا المهرجان بأحبابنا شعراء وأدباء الخليج والوطن العربي بعد انقطاع.. من عمان حضروا، ومن البحرين والكويت ولبنان ومصر، وجئنا من جدة وجازان والرياض والقصيم ومكة المكرمة والمدينة المنورة.. حضرنا نشارك، ونستمع، نحتفي بالكلمة إذ تحلّق، ونغني مع المبدعين والمبدعات، ورقصنا.. رقصنا بفرح مع النغم الشرقي الشفيف.
ثلاثة أيام في صحبة الأصدقاء، قصائد، وزيارات، وتكريم لرموز الوطن، وجلسات ممتدة من الحكايات والبهجة، انفرد بي جانباً شاعر قطيفي شاب، يدعى علي المداح، تعرفونه طبعاً، أنا لم أكن أعرفه قبل لقاء دارين هذا حين انفرد بي جانباً، وتركني دائخاً من شعره العميق، وروحه الجريئة المحبوسة خلف شخصية خجولة.. إبراهيم السالمي، جاء مع كوكبة من أبناء عمان العزيزة، وأهداني ديوانين، عنوان أحدهما (وحدي قبيلة) شاغبته طبعاً، واكتشفت أنه -وحده- قبيلةُ شعرٍ بالفعل.. قبيلة تصدح بالاستعارة، وتجترح من عالم الما وراء وجودها.
عبدالله العنزي، أبو أصيل، ذلك الشاعر الذي يغوي جنيات الشعر، فيساقطن بين يديه عاشقات ملهمَات.. بهدوئه القاتل صعد المنبر مرتين، وبهدوئه ذاته.. أدهش مرتين.. تركنا نصفق وهو يغادر المنبر بالسمت ذاته:
نهلتْ قصائدك الليالي عنوةً
وبدت بمفرقك الأمور جثياً
هاشم الجحدلي، صديقنا الصحفي العتيق، والشاعر المختلف، حضر مختلفاً كعادته، بزرقة لا تملك معها غير المديح.. في البهو كان لهاشم حضوره المعتاد أيضاً؛ ساقنا في حديث مطول جميل حول طبيعة الأساطير ومصادرها في المخيلة الشعبية في العالم العربي.. وفي البهو أيضاً، أسعفني الحظ للتعرف على العذب شعراً وفكراً سعيد الصقلاوي، رئيس مجلس إدارة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بسلطنة عمان، جالسته مع ثلة شعراء، وكان درساً في الحكمة والخلق النبيل.. لم يقطع درسه الثري العميق غير البيك... أي والله البيك.. قرر الشباب العمانيون أن يتركوا غداء الفندق المنوع من كل ما لذ وطاب، وذهبوا -معتذرين منا- ليلحقوا وجبة البيك، البيك لدينا مطعم دجاج بروست شهير جداً كما تعلمون، لكنه عندهم مكان آخر، هذا ما عرفته منهم! رافقتنا في كل مكان -تقريباً- فرقة أداء شعبية، قدمت فقراتها ألواناً: فلكلور فني، ورقصات من الصحراء والمدينة والبحر، وشاركناهم قدر ما طاوعتنا أجسادنا.. وما أجمل الليلة التي قضيناها على قارب بحري بصحبتهم.. على غيمة من حلم كنا، أدركت ذلك حين حطت على كتفي يدٌ لا كحمامة نزلت لكي تشرب، بل لتنبهني أني ارتديت حذاءً ليست لي، عدتُ للمسجد محرَجاً، فوجدت صاحب الحذاء المسروق مبتسماً:
ماذا أقول له لو (جئت) معتذراً؟!!
لم أحتج لقول شيءٍ، كان الصديق صالح الحماد ينتظرني مبتسماً، شاعر مذهل من بريدة، أعدت له الحذاء.. وأكملت معه الحداء:
الناي من سفح الكمان يلوّحُ
وسرابُ عطرِك في الصبا يترنّحُ
وجدائلُ الذكرى تسرّحُ بعضها
بيد الجفا وبكبرِها تتروح.