* إن من أشد ما يبتلى به الإنسان (الجحود)، تلك الصفة الذميمة، التي ما أن يتصف بها الإنسان إلا وتجعله مكروهاً منبوذاً لا يذكر إلا حيث الرخص والدونية، حيث تأبى النفس الكريمة المعطاءة أو قل النفس المجبولة على فطرتها إلا وأن تنزل الناس منازلهم، تشكر على المعروف، وتحمد الصنيع الطيب، وتحفظ لأهل الفضل فضلهم، وتنزل الآخرين منازلهم اللائقة بهم.
* تفعل ذلك ليس لأنها (استثناء) من الناس، ولكنه الخلق الأصيل، والفطرة السوية، والقلب النظيف، وإلا لما دام المعروف بين الناس، ولما دامت أواصر المحبة بينهم، فإن تفعل المعروف، وتسدي الخير، وتبذل كل جميل، وتجد ثمرته كأجمل ما يكون الزرع، وأنظر ما يكون الطلع، فذلك مدعاة لأن تستمر، وتعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
* ذلك العطاء الذي لا يمكن أن يحصر في جانب دون آخر، فكل ميسر لما خلق له، وكل له مع أبواب الخير، والتوفيق موعد علمه عند الله في سابق علمه، فجاء حضوره كما هو حضور الغيث على تلك الأرض الجرداء، وكان بذله بلسم على جراح الضعفاء، فهو في كل أحواله مبعث طمأنينة، ومسحة بيد حانية، وروح حيثما حلت حلت بشائر السعادة، وأينع بحضوره ما أقفر من تلك الفيافي الظامئة.
* أقول ذلك بعموم اللفظ، حيث دعاة الخير، وباذلوه يتعددون بتعدد مواقعهم، ويرتقون في مدارج البذل، والعطاء، والتضحية حيثما كانت منازلهم، فالآباء والأجداد (جيل الطيبين) قدموا من العطاء رغم قسوة ظروفهم ما هو فوق طاقتهم، والوالدان لهما من العطاء ما لا يمكن لأحد أن يماثلهم، وكذلك الأخ، والصديق، وكل تلك الأيدي الندية عطاء، وتضحية لمن عرفت، ومن لم تعرف، فبالله كيف يحق لأحد مهما كان أن يقابل كل ذلك السمو بما تأباه النفوس الشريفة من وصمة عار الجحود، والنكران.
* وعن جيل الطيبين يطيب الحديث، فما نراه اليوم رأي العين من أبناء وطن يتبوأون مراكز عليا في القيادة، ويحضرون حيث (اكتفاء) الوطن بهم في شتى المجالات، بل ويذهبون هناك حيث ميدان البصمة (العالمية) إلا ثمرة ما زرعه أولئك العظماء من أباء وأجداد، لقد تعايشوا مع شظف العيش، وتماهوا مع قسوة الحياة، وأعطوا لأبنائهم بما بخلوا به على نفوسهم، وما هدفهم -وقد كان- إلا ما نراه اليوم من عظماء من أبنائهم.
* إنها الحقيقة الناصعة البياض، الطويلة القامة، الثمينة القيمة، التي لن ينال منها جاحد، ولن يعكر صفو أجوائها صاحب هوى، ولن يزعجها متسلق هنا أو مريض عقوق هناك، ستبقى محفوظة الكرامة عند السواد الأعظم، عدا من حضر وهدفه أن يلقي قنبلة إلا أنه بدلاً من أن يلقيها أبقاها في يده، وكل من دار في فلكه، ومن دار هو في فلكهم جحوداً، وعقوقاً بلغوا فيه من الذروة أن يدعو أحدهم بألا يعيد الله جيل أبيه، ونسي أو تناسى أنه لو لم يكن أباه لما كان، والله المستعان.. وعلمي وسلامتكم.