إن مهمة اكتشاف المواهب تقع بالدرجة الأولى على عاتق المعلم، فالمعلم الحقيقي هو أكثر من (مدرس) يقتصر دوره على تلقين الطالب معلومة معينة.. لستُ أستخفُّ بدور التلقين، فلا غنى عنه في البناء المعرفيّ ولكنني أقول: إن المعلم الحقيقي لا يقف عند هذه المرحلة، بل يعطيها حقها، ويتجاوزها إلى آفاق كثيرة دقيقة وجليلة تُسهم في صناعة الطالب وارتقاء نموه الذهني.
وصدق شوقي حين قال:
قـف للمــعـلــم وفــه التبجـــيـلا كاد المعــلم أن يكـون رسولا
أعلمت أشرف أو أجل من الذي يبني وينـشــئ أنفـساً وعقولا
يا أرضُ مذ فـقــدَ المـعـلّـمُ نفسَه بين الشموس بين شرقك حيلا
ومِنْ هنا كانتِ العنايةُ بالمعّلمِ تأهيلاً وتطويراً وتدريباً وتحسيناً للأداء واجباً من أعظم الواجبات، وديناً للأمة على عنق كل من وليَ من أمر التعليمَ شيئاً، فحين ندرب معلماً كفؤاً فإننا في الحقيقة ندرب جيلاً، وننشئ رعيلاً، ونهب الوطن كنوزاً بشرية، تحمل المشعل إلى المستقبل.. ومن هنا كانت الدول الحضارية تنظر إلى (تطوير) المعلم نظرة اهتمام.. وقد ذكر أن شرائح من القضاة والأطباء والمهندسينَ طالبوا المستشارة الألمانية برفع رواتبهم لتكون مساوية لرواتب المعلمين، فقالت لهم، كيف أسويكم بمن علموكم؟ قبل قرابة سبعينَ عامًا كان هناك طالب بريطاني لم يكن يميزه عن أقرانه شيءٌ!
كان مستواه متوسطاً، وحدَهُ أستاذ الرياضيات التركي (ذكران طه) هو الذي لاحظ أن وراء هذا الوجه عقلاً رياضياً فذاً، فصرف همتَه لتطويره وترقيته وتحفيزه، كانت من نتيجة هذه الفراسة أن حصل على الدكتوراه في جامعة كامبردج، وظل هذا الطالب يتحف الساحة الفيزيائية والرياضية بإبداعاته التي كان على رأسها كتابه الشهير: (تاريخ موجز للزمن)، بيع منه أكثر من 10 ملايين نسخة! وعده بعضهم ثاني أكبر كتاب قراءةً في أوروبا بعد الإنجيل! إنه (ستيف هوكينج) أشهر علماء الفيزياء وأحدُ أعظمُ عباقرة العالم وشاغل (الكرسي اللوكاسي) للرياضيات الذي شغله من قبل العالمُ العظيم: إسحاق نيوتن.
الشاهد في هذه القصة هو فراسة المدرس التي جعلته ينتشل هذه الموهبة الفذة ويضعها في الطريق الصحيح.. إن الأساتذة الحقيقيين يمتازون بهذه القدرة على اقتناص المواهب ومن ثم وضعها في مسارها الصحيح الذي يناسب قوتها وتميزها.