يظل السؤال المنهجي والإجرائي لنقد النقد (أو الميتانقد) من هواجس النقاد والباحثين العرب، بعد أن اتضح أننا إزاء درس نقدي بدأت تتشكل ملامحه ليصبح مجالاً من مجالات المعرفة في العلوم الإنسانية.. ولذلك كان لا بد من طرح الأسئلة الرئيسة حول طبيعته، وموضوعه، ومنهجياته، وأدواته الإجرائية، والعوائق التي تواجه ناقدَ النقد أثناء عمله.
وقد بدأ محمد مريني بحثه (نقد النقد: في المفهوم والمقاربة المنهجية) باقتباس أبي حيان التوحيدي في حديثه عن صعوبة «الكلام على الكلام»، وذلك لأنه حديث ذو مستويات، يشكل فيه الأدب والنقد مستوييه الأول والثاني، فيما يكون نقد النقد مستوىً ثالثاً، أو لغة ثالثة، يقول: «وإذا كان النقد لغة ثانية تشتغل على لغة أولى هي الإبداع الأدبي فإن نقد النقد لغة ثالثة تشتغل على نقد الإبداع، لكن على الرغم من اختلافهما في الموضوع، فهما يتفقان من حيث طبيعة الخطاب القائم على أسس نظرية وأدوات إجرائية تؤطر الممارسة التحليلية».
جابر عصفور -رحمه الله- كان من أوائل النقاد العرب الذين انشغلوا بالحدود المنهجية في دراسته لـ(نقاد نجيب محفوظ) حين ربط بين نقد النقد (أو ما بعد النقد- Metacriticism) بالهرمنيوطيقا في نزعتها لتفسير النصوص وتأويلها، لكنه أشار إلى أن ميزة نقد النقد تكمن في اهتمامه «بالنشاط المرتبط بالأدب»، وهو بهذا يشير إلى موضوع المجال الجديد، ثم يقول: «وإذا كان هذا النشاط يقوم في جانبه الأول على العمل الأدبي، باعتباره قولاً يشير أو لا يشير إلى الواقع الفعلي، ويقول أو لا يقول شيئاً عنه، فإن هذا النشاط يكمله في جانبه الثاني قول الناقد (النقد) الذي يشير إلى العمل الأدبي مباشرة، ويُصدر أقوالاً عنه».
ثم يحدد عصفور تعريفه لنقد النقد، الذي يدعوه ما بعد النقد ترجمةً لـ(Metacriticism)، متكئاً على استخدام ياكبسون لمصطلح (Metalanguage): «ويتمم هذا النشاط من ناحية ثالثة (ما بعد النقد) وهو قول آخر عن النقد، يدور حول مراجعة القول النقدي ذاته، وفحصه، وأعني مراجعة مصطلحات النقد، وبنيته المنطقية، ومبادئه الأساسية وفرضياته التفسيرية، وأدواته الإجرائية».
لكن العدل العلمي يحتّم علي الإشارة إلى جدية حميد لحميداني في طرْق الأسئلة المنهجية حول نقد النقد، والتنبه لكونه حقلاً معرفياً جديداً يستحق انتباه الباحثين واهتمامهم بأطره ومصطلحاته وحدوده المنهجية، منذ العام 1991م، حين نشر كتابه (سحر الموضوع)، وصرّح في أولى صفحاته بأنه «محاولة لوضع منهجية عامة قابلة للتطبيق بالنسبة لكل ممارسة في نقد النقد».. ويستغرب لحميداني من عدم اهتمام نقاد النقد -غربيين وعرب- من قبل بالمسألة المنهجية أثناء طرحهم، راداً ذلك إلى نزعة (التعالي) التي تجعلهم «يعتقدون أن دراساتهم في غنى عن التقيد بأي منهج».
وإن كان تعريج لحميداني على عدم انشغال النقاد السابقين بالمناهج التي تضبط طرحهم أمراً يستحق النظر، فإني أجد ردَّ الأمر إلى التعالي مبالغةً لا تخلو من تسرع. فالحقل كما يعترف هو جديد، وموضوعه ليس النص الإبداعي، بل الدراسات التي اشتغلت عليه، وما دام الموضوع كذلك فإن الباحث لن يخرج من سياق المناهج المعرفية الشهيرة وأدواتها المعروفة، أعني هنا المناهج الوصفية والتاريخية والمقارنة وغيرها. ولعله لاحظ أن الوصفية كانت غالبة على الدراسات السابقة التي يمكن وضعها تحت مظلة نقد النقد، كما أنه نبّه إلى أن منهج كتابه (وصفي بنائي)، لأنه «البديل الذي يمكّن من اقتحام أنماط الدراسات التحليلية» للأعمال النقدية المدروسة.
وعلى الرغم من ذلك فإن لحميداني يقدّم إضافة مهمة نحو تأصيل المجال، حين يفصل بوضوح بين نقد النقد ونقد الإبداع، لأن الأول يرتبط بنقد الإبداع، لا بالإبداع ذاته، من هنا يطالب نقاد النقد بالابتعاد عن مناهج نقد الإبداع المعروفة، «لأن المجال الأساسي لبحثه ليس هو معرفة الأدب بل معرفة الكيفية التي نعرف بها الأدب»، وهو ما يعني اشتغاله على حقل إبستمولوجي مختلف، ثم ينطلق لحميداني في وضع منهجيته المقترحة اعتماداً على مقال لهيد قوثنر (Heid Gothner) فند فيه القول حول معايير الإبستمولوجية التحليلية التي تحكم الطابع العلمي لأي نظرية أو منهجية علمية في العلوم الإنسانية، وتتلخص في (الوضوح، واللغة الدقيقة، وقابلية الفحص والتطبيق).
ومن مقال آخر للباحثة جوانا ناتالي (Johanna Natali) تناولت فيه (قطط بودلير) بالتحليل، يستخلص لحميداني عدداً من المبادئ الأولية التي يحتاج المشتغل على نصوص نقدية التنبه لها، وهي أهمية تحديد الأهداف والغايات التي تقف خلف ناقد النقد، وحصر المدونة النقدية المشتغل عليها بدقة، ووضع تصوّر منهجي للفعل النقدي أثناء تحليل الممارسة النقدية يشمل الوصف والتأويل والتقويم الجمالي واختبار الصحة.