على الرغم من أن قصيدة النثر أثبتت وجودها فناً شعرياً حاضراً بقوة، ومنافساً لبقية الفنون الشعرية اليوم، إلا أن الجدل لا يزال يحوم حول عدد من قضاياها الفنية والثقافية.. يمكن القول إن قصيدة النثر تحولت إلى قضية هوية منذ تزايد الشعور القومي في الستينات لم تستطع قصيدة النثر أن تنافس الأجناس الأخرى في هذا المضمار، لأن منطلقاتها كانت مختلفة، وأساليبها كانت مختلفة، وصورها كانت مختلفة، واهتماماتها كانت مختلفة أيضاً.. فهي تريد -بشكل أو بآخر- أن تكون عربية، لا صلة لها بالعروبة، في زمن كانت العروبة هي العملة الأكثر تداولاً.
وعندما جاءت النكسة وجد المتحمسون لقصيدة النثر أنفسهم أمام فرصة لدعم أفكارهم عن الشعر المنفصل عن التراث، وفي هذا السياق انساقت أعداد كبيرة من الشعراء والشاعرات مع هذه الدعاوى، غير أن آراء أخرى كانت ترى في المنادين بقصيدة النثر طيوراً تحوم حول الجثة العربية، لتنهش منها ما تبقى. حتى إن أدونيس نفسه يقول في رسالة بعثها إلى صديقه الحاج: «يسمينا الإرثيون «الفوضى»، يسموننا أيضا «الخيانة»، هكذا نبدو في أعينهم، للمرة الأولى لا يخطئون النظر، فالحق أننا نعلن فوضانا وخيانتنا في ذلك العالم الممغنط بالجيف المقدسة، ولا نكتفي بل نقنع الجيوش بالخيانة، كما تقول: يعني، نقنعهم بالفوضى».
كأني بكتاب قصيدة النثر يرفضون أي نقد يوجه ضدهم.. بمعنى أنهم يهاجمون أي تأثير للتراث على الشعر العربي المعاصر من جهة، لكنهم لا يريدون أن يقال إن نتاجهم يفتقد للأصالة العربية.. كما يتقوقعون في دواخلهم ويحشون شعرهم بأشكال وألوان من الغموض، ويرفضون رفضاً قاطعاً بأن يوسموا بالبعد عن الواقع ومعالجة قضايا الأمة والمجتمع.. والمجتمع لا يتحمل إلا جزءاً من المسؤولية، كما أنهم هم يتحملون نصيبهم من المسؤولية في الأزمة الحاصلة بينهم وبين شعرهم من جهة، وبين شعرهم والجمهور من جهة أخرى.
اليوم، بعد أن اختلفت حال قصيدة النثر، وأصبحت واقعاً ملموساً في خريطة الأدب العربي، لا يزال الصراع قائماً، والجدل ناصباً خيامه بين التيارات الأدبية العربية.. ولا يزال قوم يتهمون قصيدة النثر وكتابها بينما يرى آخرون أنها النموذج الأنسب للتعبير عن هذا العصر المتسارع ولا نموذج غيره.
وقد شخصت الناقدة خالدة سعيد، إحدى أهم المتحمسات للشعر الحديث وقصيدة النثر، أسباب الأزمة، وقدمت وصفتها للحل منذ عام 1960 حين عزت في كتابها البحث عن الجذور أسباب الأزمة إلى خمسة عوامل؛ ثلاثة منها معزوة إلى الجمهور نفسه حين استقبل الشعر الحديث بنظرة عدائية مسبقة، وتقديسه للتراث العربي القديم مع جهله برموزه التاريخية والأسطورية، والعاملان الأخيران يخصان الشعر الحديث ذاته، الذي اختلط فيه الجيد بالرديء مع الإقبال الكبير، وغير الواعي أحياناً من الشعراء الشباب، بالإضافة إلى الهوة التي تركها الشعر الحديث بابتعاده عن التراث العربي «دون الارتكاز على نظم التطور الأدبي وأنساقه وقوانينه».. ورأت خالدة سعيد في الناقد الطبيبَ القادر على علاج هذه الأزمة، حيث ترى أن مهمته تتلخص في ردم الهوة بين القارئ والشعر الحديث عبر ترجمة غموض القصيدة الحديثة وتقديم قراءات نقدية خالقة، فهل قام الناقد بدوره؟ وهل الأمر فعلاً بهذه البساطة التي تراها الناقدة خالدة سعيد؟