ارتبطت السخرية والضحك بالحكمة منذ القدم، إذ تورد كتب الفسلفة طريقة من طرق السخرية تدعى (التهكم السقراطي)، نسبة إلى الفيلسوف الإغريقي الذي كان يعمد إلى إبراز نفسه جاهلاً في محاوراته مع السفسطائيين، بهدف الإيقاع بهم وإظهار مدى جهلهم.. ويرى عبدالحميد شاكر أن اهتمام كبار الفلاسفة يأتي لوجود ارتباط بين فلسفاتهم وأفكارهم الخاصة بعلم الجمال وبين أفكارهم المتعلقة بالضحك، «فالضحك وثيق الصلة بالفن والإبداع والتذوق».
ويعطي شاكر مثالاً -من عدة أمثلة يحشدها في كتابه- بالفيلسوف «الضاحك» ديمقريطس الذي «كان يلجأ إلى الضحك [على حماقات الجنس البشري]، كوسيلة ذات طبيعة جيدة تساعده على التحمل والمواجهة». وينقل أبو إسحاق القيرواني في فصل بعنوان (حاجة أهل الأدب إلى ظريف
المضحكات) عن الأصمعي قوله: «بالعلم وصلنا وبالمُلَح نلنا».. كما يورد القيرواني بيتين لأبي نواس يربط فيهما بين الحكمة والإضحاك، يقول فيهما: إني أنا الرجل الحكيم بطبعه
ويزيد في عامي حكاية من حكى
أتتبع الظرفاء أكتب عنهمو
كيما أحدث من أحب فيضحكا
وهكذا يظل الحكيم مسيطراً على المعرفة وعلى المنهج؛ يظهر متحكماً في الضحك، وفي أهدافه ووسائله، كما أنه الشخص الذي يضع الكمين في القصة الظريفة وفي النكتة، وهو الذي يَضحك، ويُضحِكُ الناس على الناس... لكنه لا يظهر غالباً في الجهة الأخرى من الكمين/النكتة، حيث ينقلب السحر على الساحر ويكون مضحوكاً عليه، لا مضحوكاً بسببه.وترد النكتة في المعاجم العربية بأكثر من معنى، منها النقطة السوداء في السطح الصافي، ويقال للعظم إذا أخرج مخه بعد كسره «نُكت مخه»، ومنها جاء استخدام النكتة في التراث العربي أيضاً بمعنى جوهر الشيء وخلاصة المسألة.
ومنها كانت «المسألة الدقيقة أخرجت بدقة وإمعان»، كما يستخلصها بوعلي ياسين في كتابه (بيان الحد بين الهزل والجد).
وهي في معناها هذا تقترب كثيراً من مفهوم الحكمة، كما أن ياسين يورد المعاني الأخرى التي تقربها من مفهوم الطُرفة مثل نبوة الفارس وسقوطه، ومثل العلامة الخفية، كذلك تشير «النكتة» أحياناً إلى الجملة اللطيفة التي تؤثر في النفس.. ويرى عباس السوسوة أن بديع الزمان الهمذاني الذي عاش في القرن الرابع الهجري كان «أول من استعمل النكتة بمعنى التعليق الساخر في رسالة».
ويعرّف الفيلسوف الألماني شوبنهاور النكتة بأنها «محاولة لإثارة الضحك على نحو قصدي، من خلال إحداث التفاوت بين تصورات الناس والواقع المدرك، عن طريق إبدال هذه التصورات على نحو مفاجئ، في حين تظل عملية تكوين الواقع (الجاد) مستمرة». وكان الفيلسوف الإغريقي إفلاطون قد رأى «أن الضحك الساخر... يقوم بدور «محكمة القانون» التي تصدر أحكامها الخاصة بشكل مباشر وحاسم». من هنا يؤكد الباحثان توماس كاثكرت ودانيال كلين أننا كبشر «قد اكتشفنا - في الحقيقة - أن (التنكيت) أو صنع الطرائف هو إحدى الطرق الناعمة (البارعة) لاستخلاص الأفكار الفلسفية العامة».
ولذلك عدّ سيجموند فرويد الفكاهة «واحدة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان»، لأنها «تصدر عن آلية (ميكانيزم) نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات، وتقوم هذه الآلية الدفاعية على أساس تحويل حالة الضيق (أو عدم الشعور بالمتعة) إلى حالة من الشعور الخاص بالمتعة أو اللذة».
لعل ذلك هو ما دفع فرويد لأن يخصص جزءاً من جهده العلمي لدراسة ظاهرة الفكاهة والنكت وتحليلها معتمداً على أدوات علم التحليل النفسي. وقد يكون من المفيد الإشارة سريعاً إلى تحليل فرويد للحيل التي تعتمد عليها النكتة (تكنيكات النكتة)، وهي: 1) التكثيف الذي يتم إما بتركيب كلمات وعبارة معينة، أو بالتغيير في الكلمات والأصوات. 2) تكرار استخدام المادة ذاتها، سواء كلها أو بعضها، أو من خلال تغيير ترتيبهاـ أو من خلال استخدام دلالات مختلفة لكلمات معينة، أو معانٍ مزدوجة أو مجازية للكلمات والعبارات، أو عن طريق التلاعب بالكلمات. كل هذه الحيل تعتمد على التكثيف وعلى الإيجاز غالباً، حتى أصبحتا (أي التكثيف والإيجاز) أهم سمات النكتة.
ويلخص عبدالحميد شاكر وظائف النكتة في عدة نقاط من أهمها: «تحقيق التواصل أو التفاعل الاجتماعي وتجديده»، و»تعزيز التماسك الاجتماعي»، و»مقاومة الاكتئاب والقلق والإحباط،» و»تحديد بعض أنماط السلوك الاجتماعي المقبولة وغير المقبولة»، بالإضافة إلى «التخفيف من وطأة بعض القيود الاجتماعية، والتعبير عن الاتجاهات العامة نحو السلطة»، سياسية كانت أو دينية أو غير ذلك.